الحضور التلفزيوني لكبار العلماء.. (د. العيسى أنموذجاً)!

ممدوح بن محمد الحوشان

إن ظهور كبار العلماء عبر وسائل الإعلام له تأثير كبير في تشكيل الرأي العام وضبط مساره وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية التي تحمي المجتمعات من ويلات التطرف والانقسام والتشرذم.

وإن هذا الظهور الإعلامي للعلماء والمشايخ بحاجة -دوما- إلى جرعات من التحديث والتطوير الذي يجعل نسب المشاهدة والمتابعة تصل إلى مستويات عليا.

وطوال دورة تلفزيونية كاملة ظهر معالي الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء في برنامج (من هدي الشريعة) على شاشة القناة الأولى باعتباره عالماً شرعياً جليلاً, وعضواً في هيئة كبار العلماء, ومن المخولين بالإفتاء من قبل ولي الأمر, فتصدى لمعالجة الكثير من القضايا والموضوعات التي كانت تشغل الرأي العام (الوسطية + الإصلاح + الحريات + الشباب + الحقوق +.... إلخ)، مبيناً معاليه الوجهة الشرعية في كل قضية بعلم وحكمة وبعد نظر, وموضحاً فضيلته موقف الشريعة من الاتجاهات الفكرية المعاصرة المرتبطة بالموضوع محل النقاش منها بعمق وتحليل قلّ نظيره في أقرانه من العلماء.

ولأن حضور الشيخ الدكتور محمد العيسى عبر برنامج (من هدي الشريعة) كان في وجهة نظري أنموذجاً يحتذى للبرنامج الديني (الفعال) و(المؤثر) فقد رأيت أن أعرض للقارئ الكريم بعضاً من عوامل نجاح البرنامج المرتبطة بشخصية الضيف الدائم للبرنامج معالي الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى.

العامل الأول: استحضار الهدف الرئيسي للبرنامج:

حدد الشيخ محمد العيسى للبرنامج رؤية واضحة فحواها وغايتها هي (تقديم الرؤية الشرعية لقضايا الفرد والمجتمع) بما يرسخ مكانة أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها وأحوالها كمرتكز إيماني ثابت وراسخ في نفوس المتلقين, مستهدفاً (معاليه) تقديم طرح الإسلامي منضبط بالشرع, ومتواكب مع تطور المجتمع وملب لمتطلبات التنمية دونما إفراط أو تفريط.

وأتذكر هنا -على سبل المثال- كيف قدم معاليه موضوع (الحقوق والحريات) بطرح قانونيا ومعالجة شرعية أبان فيها موقف الشريعة الثابت والأخلاقي والشمولي لمفهوم الحقوق, وناقش بثقة المؤمن وعلم العالم وبصيرة المفكر مفاهيم الحقوق والحريات في الفكر الغربي مبرزاً مساحات الاتفاق بينها وبين شريعة الإسلام، وموضحاً جوانب الاختلاف بين المفهومين الإسلامي والغربي مبدياً قناعة راسخة بالمفهوم الإسلامي في نقاط الاختلاف دون أي محاولة لتمييع النصوص الشرعية أو التحايل عليها.

العامل الثاني: الاستعداد الذهني والمعرفي لكل حلقة:

كان التحدي الأبرز لفريق العمل والسؤال العريض الذي يدور في أذهاننا نحن الإعلاميين المكلفين بإنتاج البرنامج كيف نستطيع التعامل إعلامياً وفنياً وأسبوعياً مع ضيف على مستوى رفيع (وزير).

ولكن المفاجأة السارة التي وقعت لفريق العمل كانت أن معاليه قد جعل (من هدي الشريعة) ركناً أساسياً في جدوله الأسبوعي، وأفرد لفريق الإعداد من وقته الشخصي خارج ساعات العمل الرسمي ثماني ساعات أسبوعياً، وخصص لتسجيل الحلقة ثلاث ساعات مساء كل أربعاء.

وأتذكر أنني كمعد للبرنامج وبمساعدة فريق الإعداد أكتب أكثر من اثني عشر سؤالاً ثم أعرضها على معاليه في جلسة التحضير الأولى فيختار منها، أو يضيف عليها، ثم يشرع (معاليه) بنفسه وبجهده البحثي الشخصي في صياغة المضمون الشرعي المتصل بهذه المحاور، مستعيناً معاليه بجملة من المراجع والمصادر المعرفية ورقية أو إلكترونية، ثم يصوغها بأسلوبه المتميز في الكتابة، ثم نجري مع معاليه بروفة كاملة لمدة ساعتين أطرح فيها المحاور على معاليه كأننا على الهواء مباشرة، ويجيب فيها معاليه باسترسال وتأن, وأثناء هذه البروفة يتم إدخال التعديلات والملاحظات التي تظهر أثناء التطبيق, وفي نهايتها يتم اعتماد المحاور والمضمون بشكل نهائي.

لقد كانت نقطة القوة الأساسية في البرنامج تعتمد على هذا القدر العالي من الاستعداد والتهيؤ الذي يبذله (الشيخ) قبل التسجيل وأثناء التصوير وبعد العرض, سعياً من معاليه لتقديم مضمون شرعي عميق نافع وجاذب للمشاهد, لأن معاليه كان يرى دائماً أن المشاهد يبحث عن الفوائد العلمية والأطروحات العميقة المستوعبة للواقع والقادرة على معالجة مشكلاته.

العامل الثالث: التفاعل مع أسئلة الجمهور:

كان معالي الشيخ محمد العيسى مؤمناً بأن العلاقة مع المتلقين باتت اليوم علاقة تفاعلية بين المرسل والمستقبل، وتعلمنا من معاليه دوماً أن نهتم ونرصد ردود المشاهدين، ونجيب عن أسئلتهم ونتحمل انتقاداتهم، ونشركهم في اختيار الموضوعات والمحاور التي تعرض في البرنامج. وأتذكر هنا كيف كان معاليه ينتقي معي الأسئلة والاستفتاءات التي تقدم نهاية كل حلقة، -لأن البرنامج كان يعرض مسجلاً وليس مباشراً- حيث كان يختار الأسئلة التي يراها تعبر عن أكبر عدد ممكن من الشرائح المستهدفة، وأذكر في هذا الصدد أن إحدى الحلقات تزامنت مع تنفيذ حكم القصاص بقاتل (ثارت حول الحكم شبه ردده بعض الدعاة دون علم), فوردت جملة من التساؤلات للبرنامج وكان الموضوع يهم الرأي العام, فوافق الشيخ على طرح السؤال وتصدى للإجابة مبيناً إجراءات التقاضي التي مرّ بها الحكم ومفنداً الشبه التي أثارها بعض (تجار إعتاق الرقاب) ومبرزاً أثر تطبيق الأحكام الشرعية في استتباب الأمن واستقرار المجتمع.

وحين كانت ترد لمعاليه أسئلة اجتماعية وأسرية كان يتصدى للإجابة عنها بحس أبوي رفيع، وينطلق عن وعي اجتماعي واسع، ويرتكز على فهم غايات الشريعة ومقاصدها, وقد خصص معاليه عدة حلقات للحديث عن شؤون المرأة والأسرة والشباب.

العامل الخامس: الوعي بأهمية القوالب الفنية:

رأى فريق الإعداد أن البرامج الدينية التي حققت نجاحاً عريضاً في العالم الإسلامي هي تلك التي وظفت جميع القوالب الفنية في حلقاتها (تقارير الميدانية + مداخلات الهاتفية + تصاميم جرافيكس) لأنها تشكل مجتمعة عناصر لطرد للملل الذي قد يصيب المشاهد.

وحينما عرضنا هذا المقترح على معالي الشيخ رحب به وأيده وأعطى الموافقة لفريق الإعداد على إدخال القوالب الفنية, على الرغم من أن هذه القوالب ستؤثر في استرسال حديث معاليه، خاصة أن القوالب مجتمعة ستأخذ 25 في المائة من زمن الحلقة, إلا أن معاليه (لوعيه الإعلامي الكبير) استحسن إدخال هذه القوالب إيماناً منه بمبدأ إيكال المهمة الفنية للفنيين, وحرصاً منه على جذب المشاهدين الكرام بمواد منوعة تخدم الهدف الأساسي للحلقة.

ختاما:

إن هذه السطور القصيرة ما هي إلا محاولة أولية (لتحليل) عناصر تجربة إعلامية لعالم سعودي جليل, وعرض (محاسنها) على المعنيين بإنتاج البرامج الدينية لعلهم أن يجدوا فيها ما يفيدهم في إنجاح جهودهم نحو إظهار العلماء على الشاشة الصغيرة برسالة كبيرة!

- مدير تحرير مجلة الدعوة