التربية والحب

عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم الريس

قال الله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).

مضى زمن كان التعليم فيهِ بالشدّة والضربِ, وتحطيم شخصيّة الطفل, وإلغاء إرادته, وكبت مواهبه وإبداعِه, وعدم الإصغاء له بكلمة.. وأصبح الناس يذكرون ذلك منتقدين متندّرين.. ولكنّ مسالك بعض المعلّمين والآباء لم تختلف عن ذلك إلاّ قليلاً, ولم يأخذوا البديل المناسب في طرائق التربية والتعليم وأساليبها ولا يقتصر اللوم على المعلّمين والآباء فهم جزء من منظُومة المجتمع الثقافيّة والتربويّة, الذي تقوم علاقاته كلها علَى هذا الأسلوب حسب مفهوم بعضهم, وتدور في فلكه.

فالحبّ من أهمّ قواعد التربية المتوازنة: فالتقصير فيه, أو الخروج عنه خلل في التربية كبير يقود إلى الإخفاق, وعدم تحقيق الأهداف.

نحن نعلم أن الناس جميعاً لديهم جملة من الحاجات العضوية كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة وغيرها، ولديهم أيضاً جملة من الحاجات النفسية: منها.. الحاجة إلى الحب.

و كِلا النوعين من الحاجات لابد من اشباعها حتى يشعر الفرد منا بالتوازن، ذلك أن عدم إشباعها يجعلنا نحس بفقدان التوازن أو اختلاله.

فالحب إذن... عاطفة إنسانية تتمركز حول شخص أو شيء أو مكان أو فكرة وتسمى هذه العاطفة باسم مركزها فهي تارة عاطفة حب الوطن حين تتمركز حول الوطن وتارة أخرى عاطفة الأمومة حين تتمركز عاطفة الأم حول طفلها ,, وهكذا.

والحب أيضاً حاجة نفسية تحتاج إلى إشباع باستمرار فكيف تتكون هذه العاطفة وهذا الحب ؟

دعونا نقف عند هذا الحديث القدسي ،،، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي (وما تقرب إلي عبدٌ بأحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها).

في هذا الحديث القدسي عدة قواعد لابد لنا من الوقوف عندها...

أولاً: «حب الله لأداء عبده للفرائض»

ثانياً: «النوافل طريقٌ لتقرب العبد إلى الله»

ثالثاً: «تقرب العبد إلى الله بالنوافل مدعاة لحب الله للعبد»

ومن نتائج حب الله للعبد، أن العبد يملك عندئذٍ جملة من وسائل التمييز فلا يرى ولا يسمع إلا ما يرضي الله ولا يمشي ولا يفعل إلا ما يرضي الله.

ويتمشى مع موضوعنا، أن ما يقدمه العبد من أداءٍ للنوافل هو طريق لمحبة الله تباركت أسماؤه.

سمع أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنكِ وقالت الأخرى إنما ذهب بابنكِ أنتِ فتحاكمتا إلى داوود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داوود فاخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين اشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها, فقضى به للصغرى].

لن نقف عند هذا الحديث كثيراً لأنه واضح وضوح الشمس وأوضح ما فيه أن الأم الحقيقية وهي الصغرى رضيت أن يؤخذ ابنها منها طالما أنه سيبقى حيّاً سليماً، وذلك من شدة حبها له وخوفها عليه ولو أدى ذلك الإبعاد إلى حزنها الشديد.

لقد ضحت هذه الأم بوجود ابنها معها في سبيل مصلحته الكامنة في بقائه على قيد الحياة، وهذا بالطبع ما تريده كل أم.

حب الأم لأولادها كالشجرة تغرس من عود ضعيف ثم لاتزال به الفصول وآثارها ولاتزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفنى عِداد أوراقها ليالي وأيام.

هذا نوع من الحب الحقيقي.

حب آخر نراه جليّاً له بسلوك فرعون مع موسى (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ). قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

والملاحظ أن فرعون استخدم أسلوب كشف الحساب حين قال لموسى (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

إن الحب الفرعوني حب واضح المعالم، حبٌ يعتمد على المن والأذى وما أراد أن يقوله فرعون لابنه ليس ببعيد عما يقوله الكثير من الآباء والأمهات لأبنائهم حين يتوقف الأبناء عن السير في الطريق الصحيح أو يحصل منهم تقصير. عندها نسمع كلاماً من قبيل... ألا تذكر ما فعلته لك ؟ ألا تذكر أني حرمتُ نفسي من كثير من المزايا في سبيل تأمين ما تريده ؟ ألم أعطك من وقتي وعمري ؟ يا حسرتي على عمري وتربيتي لك وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا شك أنه ينعكس سلباً على هؤلاء الأبناء والبنات ؟!.

ولنقرأ هذه الحادثة التي سطرتها لنا كتب التاريخ.. اشترى حكيم بن حزام زيد بن حارثة لعمته خديجة بنت خويلد فلما تزوج رسول الله بخديجة وهبته له فتبناه الرسول. فخرج أبو زيد وعمه لفدائه فلما وصلا لمكة سألا عن النبي صلى الله عليه وسلم وذهبا إليه وخاطباه بلغة راقية جداً، قالا: يا ابن عبد المطلب يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون الأسير وتطعمون الجائع وتغيثون الملهوف وقد جئناك في ابن لنا عندك فامنن علينا بفدائه فإنا سندفع لك في الفداء ما تشاء. قال رسول الله ومن هو ؟؟ فقالا: زيد بن حارثة. فقال عليه الصلاة والسلام فهلاّ غير ذلك. قالا: وما هو ؟؟ قال: أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فما أنا بالذي اختار على من يختارني أحداً. فقالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت.

فدعاه وقال له هل تعرف هؤلاء؟؟ قال: نعم. قال: من هذا؟؟ قال: هذا أبي ومن هذا ؟؟ قال: هذا عمي.

فقال لزيد: فأنا من قد علمتَ فاخترني أو اخترهما. «ولم يقدم كشف حساب طويل».

هذا الكلام مهم أيها الإخوة والأخوات، مهم جداً. لأنه يمثل مفتاح التربية بالحب.

قال زيد: ما أنا بالذي يختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم.

الحب الصحيح ليس له فوق، ولا يشبه من هذه الناحية إلا الإرادة الصحيحة فليس لها وراءٌ ولا يمين ولا شِمال، وماهي إلا أمام أمام.

إذا غضبنا على أولادنا هل ندعو عليهم أم لهم؟؟ وهذا معيار من معايير الحب.

الحب يكون من الإنسان وهو في أحلك حالات الضعف تماماً كما يبدو والإنسان في أشد لحظات القوة.

إن من حق الجميع على أولادهم أن يبروهم أي أن يردوا جميلهم وصنيعهم وإحسانهم بإحسان. وإن لم يفعل ذلك الأبناء فقد خسروا خسراناً كبيراً.

ولكن لا ينبغي التوقف عن الإحسان إليهم إذا أساءوا أو أخطأوا إن كنا نحبهم حباً حقيقياً.

قبّل الرسول عليه الصلاة والسلام أحد سبطيه إمّا الحسن أو الحسين فرآه الأقرع بن حابس فقال: أتقبلون صبيانكم؟!! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحداً منهم!! فقال له رسول الله أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك.

أيها الآباء إن القبلة للابن هي واحد من تعابير الرحمة، نعم الرحمة التي ركّز عليها القرآن وقال الله عنها سرٌ لجذب الناس إلى المعتقد ،، وحينما تُفقد هذه الرحمة من سلوكنا مع أبنائنا فنحن أبعدنا أبناءنا عنا سواءً أكنا أفراداً أو دعاة لمعتقد وهو الإسلام.

ما أحوجنا إلى أن نربي أولادنا بالحب، كي نرضي ربنا، ونعيش حياة الوئام والانسجام، فنسعد وأبناؤنا في دنيانا وأخرانا، ونبني مجتمعاً متماسكاً متحاباً قوياً ولو بالكلمة الطيبة..

للكلمة الطيبة تأثيرها الفعال في تأليف القلوب، وتربية البشر وهدايتهم وإصلاح شؤونهم ونفوسهم، فهي كالشجرة الوارفة الظلال، المورقة، المثمرة، التي تعطي خيراً كثيراً، وهكذا صورها رب العزة سبحانه فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم: 24-25).

أيضاً إنّ البسمة في وجوه أبنائنا وبناتنا تثمر ثماراً كثيرة، فهي تدخل السرور عليهم، وتنمي الحب بيننا وبينهم، وتكسبنا الحسنات، وتكفر عنا السيِّئات، وتغرس في قلوبنا وقلوبهم حب الخير للجميع.

قف «أيها الأب» وقفي «أيتها الأُم» أمام المرآة، ولينظر كل منكما إلى نفسه مرّة وهو يبتسم، ومرّة أخرى وهو عابس، وليلاحظ الفرق.

إنّ طلاقة الوجه والتبسم والإشراف.. كل ذلك يشعر الأولاد بفرحة لقاء الأب أو الأُم، فيسعدون باللقاء، وتنفتح قلوبهم لنا بحب صادق، فإن أحبونا تأثروا بنا وأطاعونا.

لذلك فقد وصفت أم المؤمنين عائشة (رضى الله عنها) رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فقالت: «كان ألين الناس، بسّاماً ضحاكاً». صلوات الله وسلامه عليه.

ومن هديه صلى الله عليه وسلم قال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة».

أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل به وللعمل الصالح والمداومة عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.

- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية