العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه مرَّ ويمرُّ بأوضاع محزنة، وظروف قاسية، عصفت به نحو المجهول، وأحرقت الأخضر واليابس. اقتتل الأشقاء دون هدف واضح، وتشردت الأسر، وتيتم الأطفال، وثكلت النساء، ودُمرت المدن والقرى، لا بأيدي الغرباء والمستعمرين وأعداء الإسلام فقط، بل بأيدي بعض أبنائها ورجال يُفترض أن يدافعوا عنها ويحرسوها ويحرصوا على رعاية أطفالها وعفاف نسائها ونمو اقتصادها وبناء مجدها وسؤددها.
إلقاء اللوم والتحدث بلغة التخوين أو الإقصاء ليس لهما جدوى، ويجب أن يحل محلهما التسامح وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة. ولنا في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكبر عظة، فقد لاقى من عتاة مكة وكفارها أشد العذاب، وخاض معهم المعارك الفاصلة من أجل إحقاق الحق، ورفع راية (لا إله إلا الله)، ونشر العقيدة الحقة. ولمّا دانت له مكة قال قولته الشهيرة «اذهبوا فأنتم الطلقاء». لم يتعقب من أساء إليه ولأصحابه، ولم يحاسب من أخرجه من بلدته ظلماً وعدواناً، بل سامح وتسامح مع الجميع، واستقبل الكل بصدر رحب، وبدأ يتعامل معهم بوضع جديد دون النظر لما فات، معتبراً ما فات مات وانتهى، وأنهم أبناء اليوم، لهم ما لإخوانهم ممن سبقوهم في الإسلام، وعليهم ما عليهم. كما لنا فيما فعله حفيده الحسن مع معاوية رضوان الله عليهم عام الجماعة (41هـ) قدوة وعبرة.
جراحنا تنزف في كل مكان، وبنية بلادنا تهدم وتخرب، وشعوبنا تشرد، ونحن لا نطيق الجلوس مع بعضنا لنتحاور حول كلمة سواء.
مرَّ العالم الإسلامي من خلال تاريخه الطويل بكثير من الأزمات والحروب، ودُمرت عواصمه، ونُهبت خيراته، وأُحرقت كنوزه العلمية والمعرفية.. لكن غالبية هذه الحروب جاءته من خارج أرضه، ومن فئات ودول لا تدين بعقيدته، بل تسعى إلى تقويضه وإيقاف زحفه. وقد باءت كل تلك الحملات والحروب بالفشل، وبقي الإسلام راسياً رسو الجبال؛ لأنه الدين الحق، والملة الباقية إلى يوم القيامة.
اليوم، الإسلام يحارَب من داخله، وبواسطة أبنائه، وبمباركة ومشاركة من المتربصين به من أهل الملل والنحل الباطلة، وممن يتسمون أحياناً باسمه كذباً ونفاقاً وترصداً وإصراراً.
بدون التسامح ونسيان الأحداث القائمة والماضية مهما كانت جسيمة لن تستقر الأمور، وتعالَج الأوضاع، وتعود الأسر إلى بلدانها، وتبدأ حركة إعادة ما تهدم، وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
بالعفو والتسامح تخف العداوات، وتزول البغضاء.. لن نفقد الأمل؛ فأملنا بالله قوي، ورجاؤنا لا ينقطع.
المهم أن نوقف حركة القتل والتدمير، ونبدأ في مراجعة كل الأسباب التي أدت إلى الواقع المحزن، ونصدق أمام الله وأمام شعوبنا في السعي من أجل رفع الظلم عن الجميع، ومعالجة الأمور بالحوار، وعدم تحميل طرف طرف دون آخر ما وصلت إليه الأمور وما حل بالبلاد والعباد من مآسٍ؛ فنحن في كرب ومحنة، وعند الشدائد لا بد أن ننسى الأحقاد.
ولولا التسامح وتغليب المصالح الوطنية على الخلافات والنزاعات ما وصلت البلدان الأوروبية إلى ما وصلت إليه، من وحدة اقتصادية وتقدم في كل المجالات، رغم تعدد اللغات والأعراق، وتضارب المصالح.. ومثل ذلك أمريكا وكندا.
ولنا عبرة فيما وصلت إليه الهند وجنوب إفريقيا من استقرار وتقدم في مختلف المجالات، بفضل التسامح ونسيان ما مرت به من حروب، وما لحق ببعض فئات شعوبها من تعسف وظلم.
لا طريق للخلاص مما تمر به أمتنا اليوم إلا بالحوار والتسامح والتغاضي، وطمس مبدأ التفرد وطلب كل شيء، فمن يطلب كل شيء لا يحصل في النهاية على شيء.
من يبدأ في مد اليد إلى من يعتبره خصمه؟ من يقابل من أساء إليه بالصفح؟ من يعلنها صريحة (سأضحي بنفسي وبكل شيء من أجل ديني ووطني وأمتي)؟
ندعو الله ألا تطول هذه المحن، وأن تخمد كل هذه الفتن، وألا تمتد لبقية البلاد الإسلامية، وأن يحمي هذا البلد من كل شر وفتنة، إنه هو السميع القادر المجيب.