من طبائع السلوك الاجتماعي أن يقارن الطارئ نفسه وتقاليده في بيئته الجديدة والموفد على أرضها وطقوسها المختلفة. فتلقائيا يبدأ جهاز (المقارنة) بالاشتغال! ولا أدل على الحسرات الحرى عندما تنهال علينا مفردات تبجيل وتقدير في أبسط حقوق المواطن أو السائح
لتقف خجلا مما يعتريك من مقززات في أدنى تعامل في أي بلد متخلف يفتقد أفراده أبجديات التعامل الراقي.
هذا وتنثال المقارنات في كل شيء في الحياة العامة والخاصة، وتتمحور تلك الثنائيات في الطابع الشكلي للبلد، لكن هذا لا يعطي حقيقة واضحة، فقد أصبحت غالب الدول ذات النمط السياحي ذات رقي حضاري مادي. غير أن الحقيقة تكمن في عمق المجتمع، وتلك لا تظهر إلا في الممارسة اليومية والتعاطي الحياتي الطبيعي مع طقوس البرنامج الروتيني لحياة الإنسان المقيم في هذا البلد أو ذاك.
فمن الأشياء المدهشة اللافتة أن مفردات (الزهد والتقشف والبساطة... الخ) المدركة في المخيل الثقافي والاجتماعي عندنا أن (الصيني) يعيش حياة يسيرة بالكاد تبلغ به رمق الحياة، وأن مستلزماته المعيشية عبارة عما يقيم الأود بسبب الفقر وقلة ذات اليد، وهذا دليل على أن الصين من أقل بلدان العالم تسعيرا ورخصا في كل شيء. غير أن تلك الفكرة مجانبة للصواب، وما حياة البساطة إلا نمط معيشي ضارب بأطنابه جميع طبقات المجتمع، وإن وجد عكس ذلك فهم استثناءات لا تمثل النظرة العامة للصيني.
فعن كثب ومعايشة في قعر العائلة الصينية أدركت أن الغني والفقير، وعلى درجاتهم، يعيشون. فعن كثب ومعايشة في قعر العائلة الصينية أدركت أن الغني والفقير، وعلى درجاتهم، يعيشون بطبيعة ودرجة واحدة. فقد تفاجأ برب البيت الفاحش الثراء يعيش في شقة من غرفتين، ويستعمل المترو والدراجة لمشاويره الخاصة، ويتعاقب على ارتداء بدلتين. وبينما تجد أكواما مكدسة بجانب باب منزلنا من الأمتعة والأغراض، فلا تجد عندهم سوى دراجة وأحذية بعدد أفراد العائلة، وحينما تفرد أمامنا المائدة بأعداد من وأصناف الطعام يتربع على مائدة الشخص صحن وصنف واحد. وعندما تتأمل بيوتهم تجد الطابع العام للبيت خلوه من الأجهزة غير الضرورية، واستخدام الأدوات اليدوية عوضا عما يسبب الموجات الكهرومغناطيسية، فقد كانت ثقافة الطب البديل حاضرة، ولها الأولوية قبل اللجوء إلى الطب الحديث. وحتى الطعام يجلب من السوق في لحظته اليومية درءا للضيق ورغبة في السعة والراحة والتوفير، وفي محاولة مستمرة في التخلص مما ليس له حاجة حاضرة. ولا نعجب من تكديس الأمتعة الزائدة أمام أبوابهم ليلتقطه أول عابر في الطريق.. ولذلك فالمخصصات الشهرية للموظفين - عموما - متدنية مقارنة بدول الخليج، وحتى الدول متوسطة الدخل، ومع هذا فالنمط اليومي والمعيشي هو المعتاد، يتساوى فيه الجميع. وأعتقد أن لطبيعة الحياة الحديثة دور في تسييج هذا المسار الذي لا يحيد عنه الفرد، فبحكم الحركة الدائبة التي لا تتوقف اضطر الإنسان أن يلجأ إلى هذا السلوك المعتاد الذي لا يحيد عنه عدا من هو مستلب لثقافة ما فيغرد خارج السرب عن هذا التيار الجارف المستمسك بتقاليده وهمومه اليومية، ولا هدف لديه من أن يعيش داخل تلك المنظومة والآلة الضـخمة التي لا تتوقف عن الحركة والهدير.
إذن هذا سلوك ثقافي لم نتخذه مثلا في الزهد والتقشف الذي حث عليه ديننا الحنيف، وإنما هي حركة حياة قمينة بالاقتداء والتبعية، فقد علمتهم صيرورة الكون وتشكل الأشياء بالتكوين الذاتي المتسق مع النسق الطبيعي الذي يتجه للتشكل بكينونته. ومن هنا استطيع القول: إن العنصر الصيني سبق غيره من الأجناس البشرية بالتشكل وصياغة سلوكه البشري الطبيعي مع تطور الحياة، وكأنه ضارب في عمق التأريخ قبل غيره، ولذلك لا نعجب عندما أشار الشيخ السعدي في تفسيره الشهير إلى أن يأجوج ومأجوج هم الصينيون، فقد كانت جذورهم ضاربة في الزمن وكأنهم سبقوا غيرهم في اكتشاف الحياة بالرغم من فراغ المنطقة من الرسالات السماوية التي تنبههم إلى قيم معينة كما في الشرق الأوسط، وإن قيل بنبوة بوذا وكونفوشيوس.. وهذا كلام يطول.
إلا أننا لا نبخس حقهم في ممارسة الحياة التي نرى صفحتها الآنية نتيجة من خطوط متعرجة استقامت مع الزمن بطبيعة التطور التلقائي بعيدا عن تفضل الغرب المتعجرف عدا ما يتعلق بالآلة الميكانيكية التي أنتجتها الثورة الصناعية في انكلترا.