الحديث عن احتمال فرض رسوم على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني للمدن هو المحور الرئيس لجل النقاشات والتحليل الذي يدور حالياً بالأوساط الاقتصادية، ويأخذ كذلك مساحة واسعة بالتغطية الإعلامية نظراً لأهميته من كونه تحوُّل مفصلي بقطاع العقار، وخصوصاً أن تركز أغلب التحليلات ينصب حول أثره المتوقع على خفض أسعار الأراضي، وهو ما يمثل حلاً مهماً برفع إمكانيات شريحة واسعة من الأسر لتملك السكن.
لكن النظر للصورة كاملة من ناحية تأثيره لا يقف عند نقطة واحدة فقط. ولمحاولة الوصول لتصور واسع لمرحلة ما بعد إقرار نظام الرسوم - لو حدث ذلك - فإن الآثار المحتملة لن تقف عند خفض الأسعار كما هو متوقع؛ لأن النتيجة الأولية لفرض الرسوم هو زيادة في معروض الأراضي للتخلص منها لمن يملكون مساحات كبيرة تشملها ضوابط الرسوم كما هو متوقع، إلا أن هناك أبعاداً عديدة ستغير من اتجاهات المستثمرين بالعقار، وستتبدل معها كل الأساليب التي بني عليها الاستثمار العقاري لسنوات طويلة، وخصوصاً فيما يخص تملك الأراضي لسنوات طويلة، والتكسب من الربح الرأسمالي الذي يتحقق من ارتفاع أسعارها؛ لأن غالبية الأراضي تبقى بيضاء، ولا تحقق عائداً سنوياً سوى من ارتفاع سعرها الذي يبقى ربحاً نظرياً إلى أن يتم بيعها؛ ليصبح ربحاً حقيقياً.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بقاء الأراضي بيضاء لسنوات طويلة ليس بالسبب الكافي لرفع أسعارها بنسب ضخمة، ما لم يكن هناك نشاط اقتصادي كبير، فإن زيادة الإنفاق الحكومي للسنوات الماضية بالتأكيد ساعدت على زيادة الطلب على الأراضي. ومع ضخامة الكتلة النقدية بالاقتصاد فمن الطبيعي أن ترتفع أسعارها كحال أي سلعة أو خدمة ارتفع سعرها في السنوات الماضية، لكن عدم وجود أنظمة تمنع بقاءها كأراضٍ بيضاء دون استثمار تنموي بمشاريع إسكان أو استثمار سمح بارتفاعات كبيرة في أسعارها تفوق قدرات شريحة واسعة من طالبي السكن على التملك، وكان لذلك أثر سلبي على التنمية الاقتصادية والمجتمعية عامة؛ ما يعني أن أي قرار سيصدر، سواء رسوماً أو غير ذلك، مما يمنع بقاء الأراضي لسنوات طويلة دون تطوير، سيكون له دور مهم بتحول جذري بقواعد الاستثمار بأكبر قناة استثمارية بالاقتصاد المحلي. فالتغيير سيكون كبيراً بسلوك الاستثمار؛ إذ لن يبحث أي تاجر بالعقار عن الربح الرأسمالي من الأرض بل سيتجه لتطويرها؛ ما سيحرك الكثير من الأموال بالاقتصاد، وسينعكس على نشاط قطاعات عديدة بالإيجاب، كما أن الطرق التقليدية للاستثمار عند تغيرها ستؤثر في هيكلية السوق العقاري، وسيكون الاتجاه نحو مرحلة جديدة، تبرز بها شركات التطوير العقاري كمحرك ولاعب رئيسي بنشاط العقار، وستضطر لطرح منتجات تناسب كل الفئات في المجتمع من حيث الدخل والاحتياج؛ ما يعني أن الواقع الحالي للاستثمار العقاري وكذلك نمط وأسلوب شركات التطوير سيتغير، وهذا بدوره يطرح سؤالاً مهماً حول مدى استعداد تجار العقار أو شركات التطوير للمرحلة القادمة. فبين نمط تقليدي اعتادوا عليه لسنوات طويلة، ويحقق لهم الربح من خلال خططهم الاستراتيجية لاستثماراتهم، وبين التحول نحو ضرورة الإسراع بأعمال التطوير العقاري السكني أو الاستثماري، هناك فرق شاسع يتطلب منهم التفكير جيداً بمتطلبات المرحلة القادمة، وإلا فإن المؤثرين ومن سيفوزون بحصص كبيرة من السوق سيختلفون؛ لأن هناك فكراً جديداً وقواعد وضوابط جديدة، ستفرض تغييراً في أساليب الاستثمار العقاري ودورها بالتنمية عامة. قد يكون فرض الرسوم مقلقاً لبعض التجار والمطورين في جانب ما اعتادوا عليه من نمط للاستثمار بالقطاع، لكن المشكلة التي ستواجههم مستقبلاً ليست الرسوم؛ لأنها بالتأكيد لن تفرض من اليوم الأول لتملك الأرض، بل الإشكالية هي بمدى قدرتهم على التطوير بمختلأنواعه، ونوعية المنتجات التي تلبي الأذواق والشرائح كافة بالمجتمع، يضاف لها أيضاً أهمية أن تتطور أنظمة الجهات المعنية بترخيص المخططات؛ لتصبح أكثر مرونة من حيث المتطلبات والوقت مع تطوير قطاع التمويل؛ ليكون بتكاليف مناسبة؛ كي يكون هناك عوامل تساند أعمال التطوير العقاري، وتزيل العقبات المؤخرة له من أمام المستثمر.
وفي المقابل لا بد أن يفكر تجار العقار بمختلف أنواعهم بأن المستقبل سيكون مختلفاً، ولن يبقى بالسوق إلا من يتحالف مع المستقبل، ويستعد له؛ لأن التأثير في الأسعار والمكاسب أو الخسائر لن يكون بيد أطراف محدودة، بل ستتسع الدائرة لتضم الممولين والمطورين الجدد والمثمنين والتنافسية التي ستعطي المستفيد النهائي حرية أوسع باختيار ما يناسبه من السكن من حيث التكلفة والاحتياج.