أنهى الفتى صلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً في (منى)، حيث كان يؤدي فريضة الحج برفقة أبيه المُسن، جلس ليختم صلاته، حشود الحجيج تتناثر كنجوم ساطعة في ملابسها البيضاء....
خرجت من وسط الناس امرأة طاعنة في السن، منحنية الظهر، تتجه حيث يجلس الفتى، جلست أمامه، توسدت رجليه، والفتى في صمت تام، وضع يده على رأسها، أراحت رأسها للخلف ناظرة إليه، تبتسم، يبتسم، تحلق الجميع حولهما، ازدادت به التصاقاً، الجميع يصرخ طالباً الإسعاف،، ما زالت باسمة، تيبس وجه الفتى على تلك البسمة، يمسح عرقها، يطير مع روحها الصاعدة للسماء.
تبث إليه رسالة أنها حارسته في كل وقت، بدأ خده يحفر ينابيع من دمع حار، لكنه يحافظ على ابتسامته... يشاركه الناس الدمع والاستغفار...
يخرج من فمها ما ينم عن قرب أجلها، تغلق عينيها بابتسامة جميلة للمرة الأخيرة...
عاد وجهها كفتاة في العشرين، حملوها بعيداً وما زال ينظر لإحرامه....
لم ينم تلك الليلة ولا الليلة التالية، وضع إحرامه مُعطراً بين ملابسه...
في طواف الوداع، الزحام شديد حول الكعبة إلا أنه نجح في أن يأخذ مكانه بين الحجيج وبدأ الطواف كان خلف أبيه يشبك يديه، يضعها تحت بطن أبيه لما أصابه من إرهاق لكبر سنه، الأب يرجوه أن يتركه يسقط عله ينعم بشهادة هنا، تيبست يديه متشابكة، رافضة الاستسلام حتى انتهى من الطواف، حاول الخروج بعيداً لكن لا فائدة، الكل يتجه للكعبة، ماذا يفعل الفتى لوترك أباه من بين يديه سيموت لا محالة، لا أحد يهتم به أو بأبيه، الكل مشغول بحاله وكأنه يوم القيامة، حاول الأب فك يد الفتى ليستسلم لقدره.
لاح وجه أبيض بلحية سوداء شاب يقارب العشرين، برفق يفتح الطريق أمام الفتى وأبيه بمنتهى اليسر.
سأله ما اسمك، قال: (هشام)، الفتي في حالة من الذهول والأب في حالة من إغماء.
وصلا بعيداً عن الزحام، التفت ليشكر الشاب، لم يكن هناك سوى يمامة تطوف حول الكعبة، تحمل نفس ملامح الشاب والعجوز.