الشاعر علي محمد القحطاني شاعر أشهر من نار على رأس علم، فمن منا لم يردد قصائده، ومن منا لم تخاطب قصائده أحاسيسه، ووجدانه، فيطرب لها تارة، ويحزن معها تارة أخرى، هو شاعر الموقف، والمكان، والعاطفة، والنصيحة، غزير الفكر، واسع الخيال، بليغ الوصف، قوي المعنى، يكتب الشعر بلغة الواثق من المشاعر، يجسّد الصورة الخيالية ليدعها تتحدث لنا عن خلجات ذاته.
كانت بداياته من الكويت أوائل السبعينات تقريباً، أثرى الساحة الثقافية بعدد من الدواوين الشعرية حيث صدر له سبعة دواوين مقروءة هي:
ميسون، نسيم الكوثر، شاعر وفنان، ديوان علي القحطاني، على هامش الذكرى، من الوادي الأخضر (الجزء الأول والجزء الثاني).
كما أنه ألّف كتابا عن حياة رفيق دربه الفنان الراحل عيسى الأحسائي بعنوان ذكريات فنان (في جزأين)، كما أن له أيضاً ثلاثة ألبومات (شعر) صوتية هي: نيل المعالي، البراقع، ورسالة إلى صديق.
نظم شاعرنا قصيدتين تعتبر من الإعجاز الشعري في طريقة الكتابة والفكرة وابتكارها وهذه من الإبداعات التي تسجل له، كانت الأولى في خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - (نادرة الأدب في قائد العرب)، والثانية في الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - (جديد الأدب في سلطان العرب).
المجال يطول لو استرسلنا في سرد سيرته ومسيرته الشعرية، لكن ما يهمني هنا في هذه المساحة التي نقلتني إلى الوادي الأخضر لأتجول بين ورود وزهور تفوح بعبق عطر تركيزه من الشعر الجزيل، لأقتطف لكم من كل روض زهرة من ذلك الوادي الأخضر لأهدي عشاق شاعر الجزيرة تشكيلة من باقة ورد لشاعر عاش الحياة بحلوها ومرها، ومرّت عليه جميع المواقف فتعلم منها الكثير ليترجم معاناته حروف شعر عذبة جعلته يتصدّر القمة في قلوب محبيه وعشاقه فكان لكل موقف ثمنٍ في حياته كما أن لكل سؤال جواب ولكل صداقة تضحية:
كل موقف في حياتي له ثمن
ما سؤال إلا وعندي له جواب
والصداقة تضحية والحب فن
كل واحد في الحياة أخطأ وصاب
جدد الأفراح يالوجه الحسن
الفرح يحضر معك وان غبت غاب
أسقني فنجان من بن اليمن
لوتقهواها عليل الراس طاب
حبها يشبه جواهر في عدن
وطعمها كنه عسل صافي مُذاب
وبما أن شاعرنا عاش جيلين متناقضين ويعتبر من الشعراء المخضرمين، فمن المؤكد أن يكون هناك اختلاف من حيث الشكوى بين الشعراء وعن المحبين ليكون جواب شاعرنا:
زمان كان الأخ للأخ يشكي
والمبتلي يسمع كلام النصيحة
واليوم يحتار الفتى من يزكي
من الذي يعطيك كلمة صريحة
ولأن دوام الحال من المُحال فلا يمكن أن يمر على الإنسان أجمل من الذكريات الماضية فكان الماضي هو أجمل مراحل الحياة حتى لو كانت تلك الذكريات مؤلمة، كما أن الإنسان لا يقنع بشيء حتى لو وهبه الله وادياً من ذهب لتمنى الآخر:
صحيح ان دنيانا لها كل يومٍ حال
وكلنٍ يقول أحلى زماني هو الماضي
ولا يقنع المخلوق مهما أوتي من مال
غريزة بجمع المال كلن بها راضي
ورجلٍ يشوف الخير عندك يجيه هبال
ورجلٍ يشوف الخير عندك ويغتاضي
ورجل ٍعطاه الله رزقٍ ولكن عال
ورجلٍ حرم نفسه ويجمع على الفاضي
كما أن حُب الوطن وحُب الديار يكاد يكون جزءا من جسد الإنسان، الذي لا يمكن أن يتخلى عنه مهما ابتعد، لأن هذا الحُب بالتحديد لا تسعفنا الذاكرة في الإنابة لنا عن رؤيتها، في حين أن هذا الحُب ثابت في القلب وما أجمل تلك الصورة الشعرية التي صورها لنا الشاعر في البيت الأخير في هذه الأبيات المليئة بالصور الشعرية الجميلة:
كلما يدعيني الداعي جنوب
طار له قلبي قبل مد القدم
أعتقد حب الوطن ماهو ذنوب
البشر مخلوق من لحمٍ ودم
لو خيالي في مشاهدها ينوب
كان ما تعدمني الذكرى عدم
لكن المكتوب مامنه هروب
تسبق الآهات ونات الندم
ينهدم حبٍ تعمره القلوب
الا حب الدار عمره ما أنهدم
لتجري الأقدار في الحياة ولا ينال الإنسان إلا نصيبه منها، كما أنه لا ينال نصيب غيره هكذا كانت الأقدار (رفُعت الأقلام وجفّت الصُحف)، إن كان خير فخير وان كان شر فشر ولن يحميه منها لا أنس ولا جان:
نصيبك يصيبك وين ما كنت ما يخطيك
وكلن عطاه الله رزقه ومقسومه
ولو تحتمي بالإنس والجن ما تحميك
ولا يملكوا للعبد رزقه ولا يومه
كما أن للشعر مواقف تُجبر الشاعر على الكتابة منها:
مره نقول الشعر من شان نرتاح
ومره نقول الشعر من ضيقة البال
طيرا يطير وطير مكسور الاجناح
والوقت ما يبقى نظامه على حال
إن أجمل ما يعيشه الإنسان في حياته من المفاجأة السارة هي الصدفة بلا ميعاد، مع من يتمنى القلب لقاءه، وتتلهف العين لرؤيته، وهنا كان للصدفة دور على هامش الذكريات في لقاء المحبين بعد غياب:
على هامش الذكرى ومال الصدف من دور
منحنا القدر فرصه ثمينه وحساسه
بمنزل قرايب والحبايب هناك حضور
وصدفة سرى في مسمعي صوت مياسه
تلفّتْ مثل البائس اليائس المسحور
وشفت الذي في الأرض ما توجد أجناسه
نظرنا بعضنا واندفعنا بدون شعور
حبيبٍ تلاقى مع حبيب انقطع ياسه
وضعت ايدي اليسرى على صدري المقهور
ومديت له يمناي تمسح على راسه
وحسيت في جوفي مثل واهج التنور
زفير الهوى المبعوث من حرّة انفاسه
جرى دمعه الغالي ودمعي جرى منثور
على بعض حتى أثقل الثوب لبّاسه
فقلت الرجا فتّح عيونك تشوف النور
ترى من كتم طول النظر يفقد إحساسه
هدأ والتفت لي وابتسم قال يا مغرور
من تحدته سود الليال أضعفت باسه
لنقف معك عزيزي القارئ مع هذه البصمة لشاعرنا نختم فيها هذه القراءة:
ترك صوت ليلى بصمته في قصايد قيس
وحطت قصايد قيس في الصوت بصمتها
منحها الغرام الطاهر إبداع في التأسيس
وطلّت على الدنيا بمرفوع هامتها
دنى وصف ليلى لين ظنيتها بلقيس
ولا هي غريبة يوم بلقيس عمّتها
بيوت الشعر والبادية والظبا والعيس
مرابي كريمة علمّتها وربّتها
من اللي سكب عطر الروابي على باريس
وخلا مُدنها باسمه في نضارتها
قصيد الملوح زاد شوقي لها التخميس
كتابات منقوشة لناس استعارتها
وتبقى لها شهره بعيده عن التدنيس
وبكره تجينا عايده من زيارتها
للشاعر علي بن محمد القحطاني بصمة خالدة في التراث والفن الشعبي في الخليج العربي، ولا أعتقد أن في الجزيرة من لا يدرك قيمة هذا الشاعر، لذلك أكتفي بتلك الباقة الشعرية، كما أتمنى أن نرى جديد الشاعر من خلال هذه المدارات الشعبية في القريب العاجل.. استودعكم الله على أمل اللقاء على خير مع أجمل تحية وتقدير.