سُئِل الأديب التركي (أورهان باموق) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006م، سُئِلَ: أين تكتب؟ فكان أن أجاب: (لطالما اعتقدت أن المكان الذي تنام فيه أو المكان الذي تتقاسمه مع شريك حياتك يجب أن يكون منفصلاً عن المكان الذي تكتب فيه. «وأردف يقول»: إن الطقوس المنزلية والتفاصيل تقتل الخيال بطريقة ما.
إن العائلي والروتين اليومي يجعلان من التوق إلى العالم الآخر، الذي يحتاج إليه الخيال لينشط، ليضمر ويضمحل. لذلك فلسنوات عديدة كان لدي دائماً مكتب أو مكان صغير خارج المنزل لأعمل فيه. كان لدي دائماً شقق مختلفة. ولكن في إحدى المرات أمضيت نصف فصل دراسي في الولايات المتحدة حين كانت زوجتي السابقة تحضر الدكتوراه في جامعة كولومبيا. كنا نقيم في شقة مخصصة للطلاب المتزوجين ولم يكن لدينا أي مكان. لذا فقد اضطررت للنوم والكتابة في نفس المكان. «ثم واصل»: الأشياء التي تذكّرني بالحياة العائلية كانت تحيط بي. وهذا أمر يزعجني. في كل صباح اعتدت على أن أودع زوجتي مثل شخص ذاهب إلى العمل. كنت أغادر المنزل، وأمشي حول بضعة صفوف من المباني، لأعود مثل شخص يصل إلى المكتب. قبل عشر سنوات عثرت على شقة تشرف على البسفور مع إطلالة على المدينة العتيقة. وهي تحظى ربما بأحد أفضل المشاهد على اسطنبول. إنها تبعد خمس وعشرين دقيقة مشياً عن المكان الذي أقيم فيه. إنها مليئة بالكتب). طقس مكثّف لمن يعرف كيف يؤسس لإبداع، لا يبتغي به الشهرة؛ بقدر ما أن همّه إنتاج وصناعة نهضة روائية لا تشبه سواه. الإبداع لا يتأتى وأمواج العلاقات أو الارتباطات تقلبنا ذات اليمين وذات الشمال، أو مسؤوليات تأخذنا ولا ترجعنا. النسق الإبداعي يتطلع إلى بيئة تتناسب ونوع ذلك الإبداع أو تتفق مع ملامحه والخيالات المجنَحة في عدم احتمالها لسقف أو جدر تقيدها. قرأت طقس (باموق)، ثم بعد فترة تسنى لي قراءة كتاب: جدلية المتن والتشكيل... الطفرة الروائية في السعودية لـ(د. سحمي الهاجري). من الكتاب خرجت بملخص قد يهم القارئ المتعطش لقراءة الفرق بين نتاجنا الروائي المتواضع وغير المؤسس، ونتاجنا غير الممتد عن أصول والقائم على جذور. الكتاب عبارة عن دراسته تختص بالمرحلة من 1990إلى 2006م.
خلاصة قراءتي:
1- الفترة من 1930-1990م صدرت ستون رواية بمعدل رواية كل عام، 1990-2006م =271رواية بمعدل رواية كل شهر تقريباً، في عام2006 فقط49 رواية بمعدل رواية كل أسبوع، الرجال 26 رواية والنساء 23رواية.
2- أكثر من ثلثي الروايات تمثّل روايات أولى لكتابها، تلك اللحظة التي تسبق تمكن الروائي من تكوين أسلوبه الفني المتفرد.
3- صفة أغلب الروايات أفكار غير تقليدية، تصوغها ذائقة فنية تقليدية.
4- السمة الشائعة هي الاعتماد على الحدث أو الحكاية أكثر من الاهتمام بالمحكي، ما عدا روايات قليلة.
5- الناقد هنا يعلم أن هذه الروايات تنتج في مجتمع شبه أمي فنياً، ولا يحتفي بالفنون كثيراً، إذا لم تُجَّرمها بالمطلق، في ظل تسلط فكرة تحريم الفنون.
6- الجمهور يتفاعل مع الرواية بما يشبه العدوى، ولا ننسى أنه جزء من مجتمع يعتمد على الأحكام المسبقة الجاهزة، والتي ينبني أكثر على البعد العاطفي والذهني أكثر من البعد المعرفي أو الجمالي أو حتى الأخلاقي.
7- في لحظة الكتابة تندمج الذات الواعية في تجارب الحياة الأليمة والغنية، وتحولها إلى تجربة إبداعية خلاقة تُدهش بقدر ما تَصدم؛ لأن وعي الذات الكاتبة يعتبر حركة ثانية لوعي الذات الفردية. وقوف النقاد على بساطة المنتج لم يكن ليدفعهم نحو المناداة بالتوقف عن الإنتاج فهي تبقى أفضل من الصمت على حد رأي الدكتور معجب الزهراني وهو يصرّح: (في كل الأحوال تظل الكتابة الروائية المتوفرة على بسيط شروطها الفنية، وصدقيتها الفكرية أكثر وجاهة من الصمت، فالصمت في المجتمعات القمعية الكبتية هو الوجه الآخر للانطواء على الذات جهلاً بها أو خوفاً عليها. إنه موت آخر أفضل من ذلك الهذيان البهي الذي قد يطل بنا على ثرثرة وظيفية كثيراً ما نحتاج إليها لفرط غيابها).
حتى الآن لم يقف النقاد على العلة في بساطة المنتج بيد أن طقوس المبدعين الأجانب، وبعدنا عن تلك الطقوس أو تجريمنا لها سبب رئيس في تواضع منتجنا، الذي نخاف أن يستمر في تواضعه.