في فلم (كارثة في نهاية المطاف) كان روان أتكينسون «مستر بين» يعمل حارساً في المعرض الملكي الوطني للفنون في لندن، حيث إن الإهواج واللامبالاة كانت سائدة على سماته الشخصية والفكرية، فكان عبئاً على المعرض والإدارة على حد سواء. فاضطر مجلس إدارة المعرض أن يتخذ قراراً بفصله، لكن مدير الإدارة تدخل لأسباب مجهولة لإيقاف هذا القرار، ولأن المجلس كان عازماً على التخلص منه بأي شكل كان، فقد تم اقتراح إرساله لمعرض لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأمريكية باسم مستعار «د. بين»، وما إن بلغ إدارة معرض لوس أنجلوس إرسال شخصية إليهم تحمل شهادة الدكتوراه حتى غمر الابتهاج نفوسهم توقاً لمقابلته، حتى إن أمين مجلس لوس أنجلوس السيد ديفيد قرر استضافته في بيته عند وصوله إجلالاً وتقديراً لمكانته العلمية والفكرية بدلاً من الإقامة في الفنادق، لكن، كما يحمل عنوان الفلم من دلالة، من اللقاء الأول بدأت تتجلى سلوكيات وتصرفات لا تتواءم مع شخص يفترض أن يمثل الصفوة الفكرية في المجتمع اللندني، فأخذت الشكوك والارتياب تختلج في نفس السيد ديفيد وزملائه حول تصرفات د. بين، حيث أمسى عالة وكارثة عليهم، وكذلك على عائلة ديفيد، حتى أن زوجة السيد ديفيد هجرت المنزل وتركته وحيداً مع د. بين استياءً من سلوكياته التخريبية الجائحة!
هذا المشهد يجسد واقعاً بائساً يحمل في طياته دلالة ضمنية وهي عدم الائتلاف بين المفاهيم السلوكية والفكرية والمعرفية، مع ما يُستشرف من بعض أساتذة الجامعات بعد نيلهم شهادة الدكتوراه خاصة في العالم الأول.
فمنذ بدايات القرن الواحد والعشرين، وأنا دائم التأمل والبحث في سعي جاد لفهم استدامة تكبيل فكر الإنسان في مجتمعنا بمبادئ التسليم والتبعية وإقصائه عن حركة الإعمار والتقدم المجتمعي التي أنتجتها العولمة، وكأننا نواجه عسراً في استيعاب مخاضات بداية القرن الواحد والعشرين وولادته المتمثلة بالانفجار الفكري والمعرفي، وقد دلت التجارب الإنسانية والأحداث التاريخية أن تقدم المجتمعات منوط بنمو الفكر والعقل عند أفراد المجتمع، وكنت أعتقد في صغري أن فئة أساتذة الجامعات هم الرهط الوحيد الذي يتنفس الازدهار والذي سينتشلنا يوما من الأغلال، واستقر في ذهني أنهم هم الذين يؤرقهم شقاء الإنسان، ويدأبون لمحاربة الشرور التي تنفع الناس في إرساء العدالة وإفناء المظالم وهم الذين يتسمون بالصدق مع الذات والموضوعية، ويسعون في إعادة هندسة المفاهيم والسلوكيات لاستئصال الحسد والنفاق والكذب وكافة الآفات التي أفسدت البشرية.
لكن يبدو أنه كلما تقدم الإنسان في العمر، توغل أكثر في تجارب الحياة، لتتكشف له طبائع البشر، ويرى ألواناً من الغرائب في أحوالهم، تبدّى لي حينئذٍ غبش الفكرة التي كانت لا تبرح مخيلتي، وانفصم التصور عن الحقيقة في العقل. وأدركت حينها أن ثمة نكوصا في استيعاب المعنى العقلاني للجامعة الذي يعتبر نتاج العالم الأول. حيث اقتنينا منهم الهياكل الزمزية التي أمست وكأنها مرماً سائداً في الأذهان، وأغفلنا اللباب والجوهر الذي أضحى عقيماً أجدب. لا يُلقى له اعتناء رغم أنه هو المحك الحقيقي القائم على الإنجاز والعطاء الذي يقاس بالنتائج. فجراء هذه الضبابية الغائمة على معنى الجامعة بمفهومها العلمي العالمي، سادت المغالاة فوق ذلك في تبجيل شهادات الدكتوراه، فنجد مثلاً أصحاب الشهادات في مجتمع يفتقر لمؤسسات المجتمع المدني، قد يعتليهم الاستعلاء نسبة لما حولهم في المجتمع. يضيف علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي، في أحد مؤلفاته أن مثل هؤلاء قد يختلجهم الاكتفاء بما درسوا فيجمدون على ما هم عليه، ومن ثم ينكبون على المكايد والتزلف في سبيل المناصب الجامعية. وهنا دلالة أنه لما يختل ميزان التوافق بين التغيرات المتلاحقة في القرن الواحد والعشرين والمفاهيم السلوكية والمعرفية عند بعض الأساتذة، تكون المحصلة النهائية هي الاختلال في مواجهة المستجدات التي تطرأ على التعليم العالي مما يؤدي إلى اضمحلال في الإنتاجية والإبداع وخور في التعامل مع أدوات العملية التعليمية والبحثية والإدارية.
أطرق طرفي واقع الحال مراراً، حتى شحذ الهمة في داخلي، وأجج الطموح للكتابة عن هذا الموضوع، وتحريت الموضوعية عند كتابة كل سطر، فكتبت هذه المقالة القصيرة في فترات شتى حتى لا تؤثر العاطفة على العقل ثم انجرف نحو جامعة أو مجتمع معين. ثم سعيت جاهداً في تشطير الواقع إلى اتجاهات، وفئات كخطوة لتجلي الدمس، بحثاً عن مواضع الخلل. وقد تمتزج سمات فئة مع فئة أخرى، لكن أعتقد أن هذا التشطير هو السائد لنعت واقع الحال. وأن قراءتي لهذا الواقع لا يعني محاولتي للتقمص بالمثالية، بقدر ما هو وصفاً لمشهد عايشته وعايشه الكثير، غفر الله لي ولكم.
1- الاتجاه المعرفي:
أ- فئة جمدت عن القراءة والبحث بعد فترة ليست بالطويلة منذ أن هبطت بهم الطائرة من دولة الابتعاث، ولذلك تجدهم غير واثقين في مواجهة أي حراك أو تطوير ويكتفون بعلم محصور داخل إطار ضيق ما يسعفهم فقط في القاعات الدراسية، وغالباً مثل هذه الفئة يحاولون الانزواء عند الضرورة التي قد تكشف خوائهم المعرفي. ويميلون للتعامي غالباً عن التطوير التعليمي فنجدهم مثلاً يعجزون عن رؤية ما لا يريدون ولو كان بحجم الربوة. فوق ذلك يغفلون عن العناصر الحديثة في العملية التعليمية والتربوية والبحثية ويلجؤون لعناصر ليست على مستوى العصر.
فأدوات التعامل مع المعلومة في القرن العشرين لا يمكن التسلح بها تماماً لمسايرة القرن الواحد والعشرين. فلكل زمن أدوات سائدة تحكمه وأساليب لها خصوصيتها في التعامل معه.
أذكر ذات مرة، أن مناسبة ثقافية في مدينة الرياض احتاجت لأستاذ متخصص في مجال ما - احتفظ باسم التخصص - فوقع الاختيار من الوهلة الأولى بلا منازع على قسم مهتم بهذا المجال في إحدى الجامعات. فلما قدموا مطلبهم لهذا القسم، وقعت الطامة وبدأ التواري يأخذ تبلوره، والاعتذارات تهرع من ألسنة الأساتذة. وحقيقة أن المراقب لمثل هذا المشهد، يكشف له بالبرهان الحاسم أن المحك الحقيقي للإنجاز هو مثل تلك الأزمات التي تتطلب ممارسة جوهرية للبّ التخصص.
ب- أما الفئة الثانية هم الذين يحتفظون بعلم لا بأس به بقدر ما يستنجدون به في الترقيات وأوقات الأزمات، لكن هذه الفئة أقل نفعاً من الفئة الأولى لأن أصحابها يتوهمون أنهم يعرفون كل شيء في مجال التخصص، فتوهمهم للمعرفة يرسي التخلف لأن الوهم بالمعرفة لن يمكنهم من التنقيب والتوغل أكثر، ولن يتفحصوا تلافيف المستجدات التي تطرأ على التخصص العلمي، وسوف يظلون أسرى مقيدين لهذه التصورات. الفئة الأولى غالباً لا يكاد فيها ضرر معرفي يتعدى خارج أطواقهم. بينما الفئة الثانية هي التي تسوغ أوحال التأخر والانكفاء في المجتمع باتخاذ منحى في الاهتمام بالشكليات والإغفال عن العناصر الجوهرية، وعادة تندثر هذه الفئة بدثار إلقاء اللوم على عوامل خارجية عندما ينجلي الإفلاس وتتفشى عورات العقل من أدوات الامتياز والبروع. أذكر مرة أن إحدى الجامعات في السعودية أقامت مؤتمراً عن السنة التحضيرية الذي في حينها سعدنا بسماعه لكونه مبادرة أولى في تطوير المساق الأكاديمي والبحثي لها. حضرنا المؤتمر وحدث ما لم يكن يُتوقع، نقلاً سافراً للشكليات وخواء في المضمون، فكان التأفف والملل مسيطراً على الحاضرين. فوق هذا وذاك، تم استبعاد الأبحاث المتميزة من قبل اللجنة المنظمة التي قد تخدش سمعة السنة التحضيرية في تلك الجامعة. فكان المؤتمر حقاً خلافاً للصورة الحقيقية التي ارتسمت في الأذهان بادئ الأمر.
فكلا الفئتين السابقتين لا تسعى للتغلغل في المعرفة ولا تشغل بالها مصلحة المجتمع، ولا المستجدات التي تكتسح أدبيات التعليم العالي المعاصر، وكذلك لا تعطي أي اهتمام لرؤية الحاضر وتنبؤ المستقبل. فوق هذا وذاك، الأبحاث التي تقدم من كلا الفئتين غالباً ما تكون قائمة على نظريات ومواضيع قتلت بحثاً، إضافة أن أبحاثهم ليس لها تفاعل ملموس في الكلية أو القسم ولا تعرض على الأقل في مواقعهم الشخصية أو في مراكز البحوث. في هذا السياق، يشير الأستاذ إبراهيم البليهي في كتابه (وأد مقومات الإبداع) أن مثل هذه الألقاب الطارئة - ويقصد بها هنا «دكتور» - صار لها صليل مضلل عند البعض وقد أدى هذا الصليل المربك إلى تبلور فجوات حجبت الفرق بين الإبداع ودراسته وخلطت بين المبدعين والمقلدين.
ج- أما الفئة الثالثة فهي القلة والتي غالباً لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من المجموع الكلي من الأساتذة في الكلية، وما دون ذلك من الفئة الأولى والثانية فهم المقلدون التابعون الذين يُحملون مع الركب ولا يحمِلون. أما الأفراد في الفئة الثالثة فهم يمتازون غالباً بالاستقلال في التفكير وجرأة في المبادرات للارتقاء بمستوى أفضل في المساق العلمي والبحثي والإداري، فتجدهم يؤدون أبحاثهم بإتقان وإخلاص ويتحرون فيها المعايير الرئيسية التي يجب أن تتوافر في البحث العلمي المتميز، كالمساهمة في تحسين جودة حياة البشر، والإضافة العلمية في مجال التخصص، والإسهام في خدمة الأمن الوطني. فمثل هذه الفئة النادرة هم الأكثر نفعاً للكليات والأشد تأثيراً على المجتمع. وهذا يوقظ التوهم بفكرة أن المتجانسين في الدرجات العلمية من الضروري أن يكونوا متجانسين في القدرات. لكن المراقب لهذه الفئة سيجد أنها مكلومة يجثم على أفئدتها الأسى بالتضييق عليها غالباً من الفئة الثانية الذي يعتريها التوعر متى ما حلت الفئة الثالثة.