أكد عدد من المختصين في العلوم الشرعية والتربوية على ضرورة معالجة الظاهر السلبية التي بدأت تظهر المجتمعات الإسلامية في السنوات القليلة الماضية التي تتنافى مع مبادئ وأحكام الدين الإسلامي ومن أبرزها عقوق الوالدين الذي ظهر وانتشر وتعددت أشكاله وألوانه وقالوا: إنها تدل على انحراف خطير لدى أبناء المسلمين عن شريعة الله سبحانه تعالى، وطالبوا بتكاتف المؤسسات التربوية والدعوية والفكرية لمعالجة هذه الظاهرة.
خصلة نتبرأ منها
بداية يوجه الأستاذ المشارك بكلية التربية في الزلفي بجامعة المجمعة الدكتور صالح بن فريح البهلال كلامه إلى الأبناء والبنات فيقول: إن الوالدين هما اللذان قاما عليك منذ اللحظة الأولى لك في الحياة، فأحسنا إليك، واختصاك بمعروفهما، وآثراك ببرهما، وتعهداك بالخير، يمرضان لمرضك، ويحزنان لحزَنك، ويسران لفرحك، ويسعيان في حاجتك، ويسهران في أمرك، ويصبران عليك، ويحتملان سوء طباعك، ويكدحان لأجلك حتى شب عنك الطوق، واشتد منك العود!
ثم استشهد بعدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن بر وعقوق الوالدين، مورداً بعض القصص في هذا الشأن، وقال: إن العقوق لخصلة تتبرأ منها المروءة، وتأباها الديانة، وتنكرها الفطرة، وتنفر منها الفضيلة، والعاق رجل قد طُبع على قلبه، فلجَّ في غوايته، وعميت عليه وجوه الرشد، وإن العاق إن لم يبادر بالتوبة ليأتين عليه يوم يكون عبرة لمن اعتبر، وبصيرة لمن أبصر، وليذوقن وبال تفريطه، فقد أخرج أحمد وابن ماجه من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) أخرجه أحمد وابن ماجه، وفي رواية عند الحاكم: (كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات).
ونبه الدكتور صالح البهلال إلى أن الوالدين من جملة البشر يعتريهما ما يعتري البشر من الخطأ والجهل والظلم، ولكن لا ينبغي للولد كائناً من كان إذا جهلا عليه أن ينهَر أو يهجُر، بل يصفح ويحسن، فهذان ليسا كبقية الناس، فقد جعلهما الله سبب وجودك في هذه الدنيا، وإذا كان الله ـ سبحانه ـ أرشد في التعامل مع المسيء فقال: (ادفع بالتي هي أحسن..) فأول ما يدخل في هذا الإحسان الوالدان، وإذا كان ليس في الذنوب شيءٌ أقبح من الكفر والشرك بالله؟ ومع ذلك أمر الله ببرهما، حتى ولو كانا داعيين إلى الكفر بالله، يجاهدان ولدهما عليه، ويؤزانه إليه، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، فلم يأمر سبحانه بهجرهما، ولا بالإساءة إليهما، فما بالك بما سوى الكفر من الخطأ؟
الحالات في تزايد
أما الشيخ منصور بن صالح العُمري المستشار الأسري والباحث الاجتماعي فيقول: من يتأمل قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. يدرك عظمة هذه الخصوصية التي اختص الله بها الوالدين فعطف الإحسان إليهما على توحيده في العبادة ولهذا علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أهمية المحافظة على الإحسان للوالدين ويكفي أن استدل بثلاثة أحاديث شريفة وإن كان ما ورد في السنة منها الكثير الكثير فعند البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور) وعند الحاكم وصححه ثلاثة حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر الخبث في أهله) وفي حديث آخر له (ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف) فيتبين من ذلك أن العاق لوالديه ليس عابدًا لربه بمقتضى الآية التي عطفت حقوق الوالدين والإحسان إليهم بتوحيد العبادة لله.
وأكد فضيلته أن ظاهرة العقوق للأسف من الظواهر المعتلة التي أخذت تتنامى حدوثاً وأثراً فحالات العقوق في تزايد مستمر في عددها كوقائع ومتعاظمة في صورها كأثر حتى غدا بعض من ابتلاهم الله بالعقوق يتفنن في استجلاب صور جديدة من العقوق لم تكن موجودة ولا متصورة في مجتمعنا المحافظ وكلما ظن العاق أن حاجته لوالديه تناقصت تعاظم عقوقه لهما والمحرن أن الوالدين في الغالب لا يستطيعان الفكاك من عاطفة الأبوة والأمومة ويتجرعان مرارة الأسى بصمت حزين ودموع حارة متطلعين الى أن يتبدل حال الابن من العقوق الى البر أو السلامة والكفاف لا لهما ولا عليهما على الأقل بينما الابن العاق لا يزداد إلا غياً وقسوة والعياذ بالله.
وقال: خلال عملي في الشؤون الاجتماعية وبالذات إبان عملي مديراً لدار الملاحظة الاجتماعية عايشت صوراً عديدة من العقوق بلغت في بعض الأحوال قتل أحد الوالدين أو التعرض لهما بالضرب الشديد أو التفنن في صور الإهانة لهما وأقساها ما يكون على مشهد من الناس وعند دراسة تلك الحالات يتبين أثر الصحبة السيئة على المراهق ومحاكاة قرين السوء في تصرفاته وتعامله مع والديه فيشعر أن هذا هو الطبيعي كشاب بدأ يدلف الى الرجولة ولا بد له أن يثبت شخصيته كما أن الطلاق وسوء العلاقة بين الوالدين بعدها له أثر في شحن نفسية الابن الذي قد يتضرر من حدة الخلاف بين أبويه فيعم الى الانتقام لنفسه ممن أضر به كما يرى ويقاس على ذلك الأب الذي يتعامل مع ابنه بقسوة لا مبرر لها ولا يصحبها اعتذار أو عطف في مواقف أخرى وتلبية لمسؤوليته الوالدية لجلب السعادة وإحداث التوازن في شخصية ابنه ما يجعله يبرر لنفسه القسوة والعقوق عند التعامل مع والده متى بلغ سناً ووضعاً يسمح له بذلك.
وانتهى الشيخ منصور العُمري: إن وسائط الإعلام المرئي والقنوات الفضائية على وجه الخصوص لبعضها أثر سلبي في تغذية مشاعر القسوة، وإشعار المراهق بأن ما يمارسه من عقوق إنما هو ممارسة لحريته الشخصية وتجاوز من والده لخصوصيته وفي العموم هذه الظاهرة المعتلة خطيرة حد الوجوب أن نقف متأملين لها فتدرس من جهات الاختصاص فكلما اتسعت دائرة وجودها اتسعت أهمية العناية بها بشكل علمي يضمن وضع الأطر السليمة للتعامل معها وحماية المجتمع من أثرها بعد على مشهد من الناس أو تكرار توريط الأب في مواقف يصعب عليه تحمل تبعاتها فتربك حياة الأسرة بأكملها.
الجهل وسوء التربية
وتعزو الدكتورة فوزية بنت صالح الخليفي أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض عقوق الوالدين إلى أسباب كثيرة منها:
1 - الجهل: فالجهل داء قاتل، والجاهل عدو لنفسه، فإذا جهل المرء عواقب العقوق العاجلة والآجلة، وجهل ثمرات البر العاجلة والآجلة ـ قاده ذلك إلى العقوق، وصرفه عن البر.
2 - سوء التربية: فالوالدان إذا لم يربيا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، وطلب المعالي وجدا منهم العقوق.
3 - التناقض: وذلك إذا كان الوالدان يعلِّمان الأولاد، وهما لا يعملان بما يُعَلِّمان، بل ربما يعملان نقيض ذلك، فهذا الأمر مدعاة للتمرد والعقوق.
4 - الصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسد الأولاد، ومما يجرؤهم على العقوق. كما أنها ترهق الوالدين، وتضعف أثرهم في تربية الأولاد.
5 - عقوق الوالدين لوالديهم: فهذا من جملة الأسباب الموجبة للعقوق؛ فإذا كان الوالدان عاقين لوالديهما عوقبا بعقوق أولادهما - في الغالب - وذلك من جهتين:
أولاهما: أن الأولاد يقتدون بآبائهم في العقوق.
وآخرهما: أن الجزاء من جنس العمل.
6 - قلة تقوى الله في حالة الطلاق: فبعض الوالدين إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان.
بل تجد كلَّ واحد منهما يغري الأولاد بالآخر، فإذا ذهبوا للأم قامت بذكر مثالب والدهم، وبدأت توصيهم بصرمه وهجره، وهكذا إذا ذهبوا إلى الوالد فعل كفعل الوالدة. والنتيجة أن الأولاد سيعقون الوالدين جميعًا، والوالدان هما السبب.
7 - التفرقة بين الأولاد: فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناء والبغضاء، فتسود بينهم روح الكراهية، ويقودهم ذلك إلى بغض الوالدين وقطيعتهما.
8 - إيثار الراحة والدعة: فبعض الناس إذا كان لديه والدان كبيران أو مريضان - رغب في التخلص منهما، إما بإيداعهما دور العجزة، أو بترك المنزل والسكنى خارجه، أو غير ذلك؛ إيثارًا للراحة - كما يزعم - وما علم أن راحته إنما هي بلزوم والديه، وبرهما.
9 - ضيق العطن: فبعض الأبناء ضيِّقُ العطن، فلا يريد لأحد في المنزل أن يخطئ أبدًا، فإذا كسرت زجاجة، أو أفسد أثاث المنزل - غضب لذلك أشد الغضب، وقلب المنزل رأسًا على عقب. فهذا مما يزعج الوالدين، ويكدر صفوهما.
كذلك قد تجد بعض الأبناء يأنف من أوامر والديه، خصوصاً إذا كان الوالدان أو أحدهما فظّاً غليظًا، فتجد الولد يضيق بهما ذرعاً، ولا يتسع صدره لهما.
10 - قلة إعانة الوالدين لأولادهما على البر: فبعض الوالدين لا يعين أولاده على البر، ولا يشجعهم على الإحسان إذا أحسنوا. فحق الوالدين عظيم، وهو واجب بكل حال، لكنَّ الأولاد إذا لم يجدوا التشجيع، والدعاء، والإعانة من الوالدين ـ ربما ملَّوا، وتركوا بر الوالدين، أو قصَّروا في ذلك.
11 - سوء خلق الزوجة: فقد يبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتكون شجى في حلقه، فتجدها تغري الزوج، بأن يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما؛ ليخلو لها الجو بزوجها، وتستأثر به دون غيره.
12 - قلة الإحساس بمصاب الوالدين: فبعض الأبناء لم يجرب الأُبوَّة، وبعض البنات لم تجرب الأمومة، فتجد من هذه حاله لا يأبه بوالديه؛ سواء إذا تأخر بالليل، أو إذا ابتعد عنهما، أو أساء إليهما.