الغضب وحده لن ينهي ويقضي على الحالة المستفزة إن لم نتفهم ونستوعب بواعث ودواعي هذا العمل المستفز للغضب، وظهور جماعات ترفع رايات الدين وتمارس العنف بأبشع صورة ليس صدفه، ولا يقدم أو يؤخر تصويره كمؤامرة أو خوارج أو عملاء لا فرق، هناك
جينات وبذور تم سقيها ورعايتها بعناية حتى أينعت وأثمرت.
على أيّ أرضية زرعت وبأيّ أيدٍ غرست وبأي منهج عني بها ونمت، أسئلة حق لها أن تقرع عقولنا قبل الغضب العاطفي الذي قد يعمي البصيرة ويأخذنا دون أن ندري إلى غايات الدعم والإسناد لخصوبتها وتحسين ثمارها، ثم إنه لا يمكن لنا أن نجيب بصدق وصواب على مثل هذه الأسئلة في مناخ مرتبك ومهتز بالشك والريب أو المزايدة أو التحزب لرأي أو فهم، والأمر وبقدر ما هو مصيري وخطير جداً لا يكفي أن يبقى مطروحاً للاجتهاد والمساجلة الفئوية وتسجيل النقاط أو لردود أفعال تعلو وتنخفض حسب موجات وفرقعات هذه الأفعال أو لقاعدة المطلق في الصواب والخطأ، ذلك أن القراءة السليمة المتعمقة في ظواهر الواقع الشامل بكل أبعادة وخلفياته ومعطياته في مناخ سليم يجمع الصدق والإخلاص بين الأفكار والرؤى المختلفة وحتى المتعاكسة بشفافية ووضوح دون وجل أو خوف أو تحميل للنوايا أو تشكيك في الحس الانتمائي للهوية الأصيلة الحاكمة على الجميع.. -أقول- إن هذه القراءة السليمة هي الاحتياج الأهم لمواجهة هذا الخطر.
إن تعصب أفراد من بيننا كعرب ومسلمين لتشكيل عصابات أو منظمات تستقطب وتجذب أحداث السن والفكر والحالمين بتلبس الصور التاريخية تحت وطأة واقع لا يختلف اثنان على ضعفه وهشاشته لن توقفه الحرب والملاحقة، بل إن هذا هو وسيلته ومسلكه، فهو قد ظهر ليس ليحارب ويلاحق فقط بل وليفرض ويبسط ما يؤمن به باعتباره الصواب على واقع يراه خاطئ ومستوجب التصويب والتصحيح بنفس الدرجة التي نراه فيها إجرام خطر واجب ولازم محاربته وملاحقته واستئصاله، وليس هناك أشد خطراً من صراع الهوية مع نفسها، حيث تتيه الحقيقة وتميع المواقف وتضعف القناعات وتصبح العقول في حالة شك وضياع، حالات هذا النزاع في العقل والفكر هي التي تحتاج لمواجهة، فهناك من لا يرضى ولا يقبل هذه الأعمال المشينة ويدينها لكنه يمارسها بشكل أو بآخر وإن اختلفت الوسيلة أو الأداة أو درجة الشبه ومن كلا الطرفين يتطاعنان بالغمز واللمز وفي نفس الوقت يتجاذبان نحو القوة للاحتماء بها، إننا بحق فعلاً بحاجة ماسة لمواجهة ذاتية مع أنفسنا أولاً كي نحرث التربة أو الأرضية التي يبذر وينمو ويثمر الفكر والوعي فيها ليكون الحصاد لنا وماضي بنا في المسار الصحيح، والأمر في التطبيق ليس بالسهل لاشك لكن تجاهله أو تجاوزه يبقي على فرص الديمومة والنمو والتكاثر لهذه الجماعات الخارجة عن الواقع للتاريخ.
إننا لا نستطيع الخروج عن انتمائنا العربي وهويتنا الإسلامية ولكن هذا الانتماء وهذه الهوية لا تقصينا أو تفصلنا عن بقية البشر وعن التناغم والعيش المشترك معهم، غاية الأمر أن تغييب بعض المفاهيم وتعبئة فراغها بتحسين وتلطيف فعل الآخر بتهوينه أو محاولة الانصهار فيه هو بمثابة سماد يقوي تربة تلك البذور ويساعد في سرعة نموها، بمعنى أنه وحين يكون التقديس للقناعات بديلاً عن التقدير القابل للنقاش أو أن تقف جهات إعلامية عربية أو إسلامية على الحياد -في أقل تفسير- في صراع الهوية بيننا وبين الآخر فإن هذا الفعل وذاك يؤجج ويعين في تقوية البذور ونموها، بل ويصبح من الحجج القوية لهذه الجماعات في نهجها وخيارها، فماذا إن كنا في خضم هذا اللّجج نتقاذف هذا الإفراط والتفريط بالتهم والتهكم والنيل من الآخر؟.
إن داعش وما شابهه وما سبقه وما سيلحقه موجات تلحق موجات تضرب أمن واستقرار وتقدم وتطور وطننا العربي والإسلامي، وهو يرفع سلاح الانتماء والهوية شديدة الجاذبية وما لم نسع ونصل إلى نزع هذا السلاح من أيديهم بأفعال ومواقف حقيقية تحيل النزاع أو الصراع في العقل العربي المسلم لما نؤمن بصوابه فسيستمر هذا الصراع في استنزاف جهودنا، إن الانتصار على هذا الجرم لن يتم من خلال إفراغ مسلمات الهوية والانتماء عن طريق استيراد ثقافة الآخر وتسويقها كما يفهم البعض ويسوق له ولا من خلال الخلط والحشد بين التقديس والتقدير، بل إننا في حاجة إلى إعادة استحضار الهوية وتفعيل الانتماء من براثن الهزيمة والخوار وبالوعي المحيط والشامل بتبدل حال العصور والأزمان، وإن عقل ومنطق الإنسان يتبدل ويتغير هو أيضاً تبعاً لعصره وزمانه وإن للسلف تقديره وللحاضر تدبيره.