قال لصاحبه وهو يحاوره: ألا تؤمن بحقي في التعبير عن رؤيتي في الحياة، وآرائي الشخصية فيما يجري من حولي من أحداث ومتغيرات، أعبر عن آرائي بحرية وصراحة وجرأة، وأطرح رؤيتي في الموقف منها وأسلوب معالجتها، فكان رد صاحبه، بلى لك كل الحق، طالما أنك تحلق في فلك الأطر العامة للمجتمع الذي تنتمي إليه، وتلتزم بقيمه وأخلاقه، وتؤمن بمسلماته ومبادئه، وتحترم رؤية الأغلبية وتتكيف معها، وتأتي بما هو مستطاع من الأفكار والحلول، وما هو ممكن للتطبيق والممارسة، فطالما أنك كذلك، فأنت تعد قيمة مضافة للمجتمع، ولست مجرد رقم لا قيمة له ولا وزن، بالعكس أنت بهذا تفتح آفاقاً ربما تكون غائبة عن الأغلبية، بلوى المجتمعات هي في النسخ الكربونية المطأطئة رؤوسها، التي لو استبعدت المئات بل الآلاف منها لما شعر المجتمع بفقدها، إنها مجرد غثاء مثل غثاء السيل، بل ربما في الغثاء بعض الفائدة، أما هؤلاء فلا فائدة ترجى، ولا أمل ينتظر.
ومن يمعن النظر في واقع الحياة السياسية في العالمين الإسلامي عامة، والعربي على وجه الخصوص، يدرك دون عناء مدى مرارة هذا الواقع ومأساويته، ومدى الإحباطات وأوجه الفشل التي تهيمن عليه وتأسره، وأن التحرر من هذا الواقع المؤلم والفكاك منه يتطلب المزيد من الوقت والجهد، فحرق المراحل عموما أمر غير ممكن وغير مستحب، وفي البعد السياسي تحديدا يعد أكثر استحالة وتعذرا، لأن في هذا البعد متغيرات رئيسة متعددة، يأتي في مقدمتها الثقافة المهنية وقدرة السياسي على التواصل مع الآخر والتعرف على حاجاته، وإشعاره بتفهمها والسعي الصادق والجاد بإيلائها الاهتمام الذي تستحقه.
والثاني: قدرة السياسي على ملامسة الواقع، والتفاعل معه، ومخاطبة الطرف الآخر المستهدف وإقناعه بالرؤية والمشروعات التي سوف تحقق الانتقال من الواقع المحبط إلى آفاق الواقع المشرق.
والثالث وجود السياسي الذي يتملك سمات فطرية شخصية تجعله يحظى بالرضا والقبول، سمات مكتسبة تؤهله لإنجاز الوعود التي يقطعها على نفسه بالانتقال من الواقع المحبط إلى الواقع المشرق.
وهنا يتبادر التساؤل التالي، لماذا واقع الحياة السياسية في العالمين الإسلامي والعربي فاشل محزن كئيب؟ واقع يسر الشامتين، ويفرح الأعداء والمتربصين.
عطفا على ما سبق ذكره من المتغيرات الرئيسة التي تعد من لوازم الممارسة السياسية الناحجة، هناك بلوى تكاد تنفرد بها الحياة السياسية في العالمين الإسلامي والعربي تحديداً، ألا وهي تعدد الأحزاب، حيث يبلغ عددها في بعض البلدان ما لا يقل عن عشرين حزباً أو تزيد، كل ما في الأمر مجموعة من الأفراد آمنوا بجملة من الأفكار، صاغوا لها عنواناً براقاً، وشعارات حالمة، وصاروا يجهدون أنفسهم في حشد تأييد الأتباع من خلال النشرات وكتابة أجمل العبارات على قماشيات تعلق هنا وهناك، وتعليق الصور في الشوارع والطرقات.
وعلى المنوال نفسه يجتمع آخرون حول جملة من الأفكار النظرية، التي غالبا ما تدغدغ المشاعر والعواطف، لكن بينها وبين التطبيق العملي كما يقال: «خرط القتاد».
إن هذه الأحزاب رغم كثرتها لم تستطع أن تلامس هموم الناس وتقترب منهم، وبالتالي تتفاعل مع حاجاتهم ومتطلبات معيشتهم، فهي في واد والناس في واد آخر، لذا لا يلقون لها بالا ولا يعيرونها اهتماماً أيام الاقتراع فقد وقر في أذهانهم ضعفها وعجزها وقلة حيلتها.
المخرج والحل، في التطبيق العملي والامتثال الفوري للتوجيه الرباني: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ (103) سورة آل عمران، لن تصلح الحال إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أما الركض وراء الأحزاب والتحزبات فلن يزيد الحال إلا فرقة وتشظيا.