كنت أتابع شخصية إعلامية مؤثرة من خلال أحد البرامج الحوارية الشهيرة في رمضان، هذه الشخصية اختطت لنفسها منهجا فريدا في الكتابة، فأسلوبه يعد سبقا على مستوى (التكنيك الكتابي)، فبراعته في سبك العبارات واختيار الألفاظ وإيراد الأفكار، براعة غير مسبوقة، بل لا أبالغ إن قلت انه الأول حتى حين على مستوى صناعة الحرف وحبكه وسبكه.
شاهدت هذا المفكر في تلك الحلقة وألفيته كما هو، ذات الأفكار والحجج والبراهين، ذات التهم التي تحاصره، ذات الإجابات المستنسخة من اراشيفه الكتابية والتلفزيونية، لم يتغير شيء، كل ما تغير ينحصر في المظهر والأناقة، وطريقة التعاطي غزلا مع الكم الهائل من الكاميرات في ذلك الاستديو المهيب. تساءلت..... ما الذي جعل هذا المفكر مكرورا على مستوى الخطاب ولغته واجندته ؟ ما الذي يجعل الإعلام والمجتمع يحاصره بالتهم ذاتها.... المناطقية، عدالة التنمية، وسياسات التعليم ؟، لماذا عندما يبرز رؤاه وأفكاره يكون معادا حد السآمة والملل؟، كل تلك الأسئلة والحالات تكمن إجاباتها أو سببها في الكتابة اليومية.... نعم انها الكتابة اليومية التي تخرج المفكر المبدع من مساحات الانضباط الإنتاجية الفسيحة ومتلازماتها الإبداعية، ليدلف إلى أركان قصية محصورة ومسيجة بممارسات الكتابة الملتزمة بحضور يومي يستنزفه ويرهقه.
إن الكتابة اليومية المحكومة سلفا بمواعيد الطباعة والنشر تعد محرقة للمبدع ولنتاجه الفكري، ناهيك عن المقص ومحاذير الرقيب الذي يظل راسخا في ذهن المفكر وقد يوصله إلى مراحل من التناقضات والتراجعات وتغيير المواقف والرؤى والأفكار.
إن صناعة الأفكار تظل المهمة الأولى للمفكر، وذلك من خلال نتاج معرفي يوثق كل تجلياته ورؤاه التنويرية الرصينة، وعندما يتنازل المفكر عن هذه الصنعة تحت تأثير الكتابة اليومية ووهج حضورها الشعبوي كثيرا والبلاطي أحيانا، فإنه - أي المفكر - يتراجع درجة على سلم الإبداع الإنساني نكوصا من كونه مفكرا ليصبح مثقفا أو راصدا - على الأكثر - لحراكات المجتمع بكل شواهدها الحياتية، السطحية قبل العميقة، أي انه يصبح أسيرا لقاعدة ما يطلبه المشاهدون ويطربون له، ومع تقادم الزمن والعمر تصبح عطاءات هذا - المفكر سابقا الراصد حالياً - عطاءات نادرة وضعيفة ومستنسخة، وهذا حكم ظالم أصدره هولاء النخبويون على أنفسهم ومجتمعاتهم التي كانت تنتظر منهم الكثير.
نخلص من هذا أن مآثر المفكرين في كل حضارة تتمثل في الكتب والمخطوطات والتصانيف الإبداعية المختلفة، أما الكتابة اليومية فتعد من وجهة نظري البسيطة كالسلع الاستهلاكية التي مهما غلا ثمنها فإنها وبتقادم السنين وتغير المزاجات الاستهلاكية للقارئ، تصبح بضائع مزجاة يقتاتها القلة من الناس التي ما تلبث أن يطويها النسيان ويغيبها الزمان.