وجَّه سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار العلماء الرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ بياناً أمس الثلاثاء بعنوان «تبصرة وذكرى»، فيما يأتي نصه:
الحمد الله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات.. أحييكم بتحية الإسلام الخالدة, ذات المضامين الكريمة والمقاصد السامية.. فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فمن اشتغل بتقوى الله فالله كافيه.
ومع هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية، اختلت فيها كثير من الأوطان, ومعها اختلت كثير من الأفهام.. ولا شك أن أكثر الأفكار خطراً أفكار تسوق باسم الأديان؛ ذلك أنها تكسبها قداسة تُسترخص في سبيلها الأرواح, وحينئذٍ ينتقل الناس ــ والعياذ بالله ــ من التفرق الذي يعصم منه الدين إلى التفرق في الدين نفسه, وهذا الذي حذرنا الله - عز وجل - منه في قوله {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} الأنعام: 159. فإنه تعالى في هذه الآية يحذِّر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم. وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها, وهو كلّ تفريقٍ يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضاً, ومقاتلة بعضهم بعضاً في الدين. وليس في الإسلام جناية أعظم عند الله تعالى بعد الكفر من تفريق الجماعة, التي بها تأتلف القلوب, وتجتمع الكلمة, كما في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمْ آيَاتِه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران: 103. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة, فإنها حبل الله - عز وجل - الذي أمر به, وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة». والفرقة والخلاف لا يكونان إلا عن جهل وهوى, كما أن الجماعة والائتلاف لا يكونان إلا عن علم وتقوى.
إن المسلمين اليوم - والحال كما يعرف الجميع - في حاجة متأكدة إلى أن يتضلعوا علماً ومعرفة بهذا الدين القويم قبل أن يعرفوا به غيرهم, ليس ذلك في المسائل والأحكام فحسب, وإنما في مقاصده العظيمة الواسعة التي من أجلها شُرع, وعليها أُنزل, فإن الله تعالى ما أرسل الرسل وشرع الشرائع إلا لإقامة نظام البشر كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الحديد: 25. وشريعة الإسلام هي أعظم الشرائع وأقومها كما دلَّ عليه قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّه الإسلام} آل عمران: 19. وقد جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل. والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها. ومن أسس القرآن الواسعة: أن الأصل في الأشياء الإباحة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} البقرة: 29، وأن الأصل في الإنسان البراءة: {فِطْرَة اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم: 30. وهاتان القاعدتان هما أساس كل تشريع وحرية. ولا تتم كل الأسس وتقوى على النهوض إلا بمعرفة أن سماحة الإسلام هي أول أوصاف الشريعة الإسلامية وأكبر مقاصدها، كما في قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185، وقوله {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78، وقوله {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَة لَنَا بِه} البقرة: 286. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة». والحنيفية ضد الشرك, والسماحة ضد الحرج والتشدد. وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر, ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه». واستقراء الشريعة يدل على أن السماحة واليسر من مقاصد هذا الدين. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الإسلام ودوامه, فعلم أن اليسر من الفطرة؛ لأن في فطرة الناس حب الرفق. وحقيقة السماحة التوسط بين طرفَيْ الإفراط والتفريط, والوسطية بهذا المعنى هي منبع الكمالات, وقد قال الله تعالى في وصف هذه الأمة: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا} البقرة: 143.
وعلى ضوء هذه المقاصد العظيمة تتجلى حقيقة الوسطية والاعتدال, وأنها كمال وجمال هذا الإسلام, وأن أفكار التطرف والتشدد والإرهاب الذي يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل ليست من الإسلام في شيء, بل هي عدو الإسلام الأول، والمسلمون هم أول ضحاياها, كما هو مشاهد في جرائم ما يسمى بداعش والقاعدة وما تفرع عنها من جماعات, وفيهم يصدق قوله صلى الله عليه وسلم: «سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة». وهذه الجماعات الخارجية لا تحسب على الإسلام, ولا على أهله المتمسكين بهديه, بل هي امتداد للخوارج الذين هم أول فرقة مرقت من الدين بسبب تكفيرها المسلمين بالذنوب, فاستحلت دماءهم وأموالهم.
وندعو في هذا الصدد إلى توحيد الجهود وتنسيقها التربوية والتعليمية والدعوية والتنموية لتعزيز فكر الوسطية والاعتدال النابع من شريعتنا الإسلامية الغراء بصياغة خطة كاملة ذات أهداف واضحة مدعمة بخطة تنفيذية تحقق تلك الأهداف المنشودة واقعاً ملموساً.
هذا، وإن العالم اليوم وهو يضطرب من حولنا علينا في المملكة العربية السعودية - وقد أنعم الله علينا باجتماع الكلمة ووحدة الصف حول قيادتنا المتمثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين وولي ولي العهد حفظهم الله - أن نحافظ على هذا الكيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً, وألا نجعل من أسباب الشقاق والخلاف خارج الحدود أسباباً للخلاف فيما بيننا, فكلنا - ولله الحمد - في المملكة العربية السعودية موحدون ومسلمون, نحافظ على الجماعة, ونلتزم الطاعة في المعروف, ونحمل أمانة العلم والفكر والرأي والقلم، ويوالي بعضنا بعضاً ولاءً عاماً, ويعذر بعضنا بعضاً فيما أخطأنا فيه, سواء في ذلك العلماء والأساتذة والكتاب والمثقفون وسائر المواطنين.. ندير حواراتنا حول ما يهمنا من قضايا الدين والوطن بأسلوب الحوار الراقي الذي لا يُخوَّن ولا يَتَّهم, فكلنا في هذا الوطن سواء, لنا حقوق، وعلينا واجبات.
نسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء، وأن يقيَنا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوال المسلمين، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.