كل الأنوار يحاول البرابرة إطفاءها، وكل النوافذ المفتوحة يحاول البرابرة إغلاقها، وكل الأنهار والغدران الجارية يحاول البرابرة إيقافها، وكل الألوان البهية يحاول البرابرة طمسها، وكل جماليات الحياة يحاول البرابرة إلغاءها، لا يريدون الحياة كما أرادها الله جميلة حلوة راكضة زاهية،
يريدون الحياة كلها لأجلهم ميتة أو واقفة، لا يحلمون كما يحلم الناس، لأن أحلامهم ضائعة، وآمالهم تائهة، صدورهم ضيقة، قلوبهم حجر، عيونهم غائرة، ووجوههم بائسة، لا يحبون الورد وألوانه الزاهية، ويمقتون لعب الصغيرات مع الفراشات الباهرة، لكنهم يعشقون بطون النساء الضامرة، والحكايات الفارغة، والقصائد الركيكة الباهتة، يحبون خلع الأشجار القديمة، والرسم بالأحمر، والألوان الداجية، لا يحبون البحر وزرقته النافرة، ولا ضوء القناديل، ولا إشارة المنارات للسفن العابرة، حتى الزنابق لا يحبها البرابرة، لا يحبون الحدائق، والشواطئ والروابي، والألحان الباهرة، ويكرهون طير اليمام والحمائم وشدو البلابل الحالمة، لكنهم في المقابل يحبون، طير الغراب والبومة والضفادع، ويعشقون طريقة الثعالب، وقلق السناجب، وأرض المقابر، لا يريدنا البرابرة أن نعيش كما نريد أن نعيش، ولا أن نحلم كما نريد أن نحلم، ولا أن نلبس كما نريد أن نلبس، ولا أن نستحم كما نريد أن نستحم، ولا نقرأ جريدتنا المفضلة، ونشرب قهوتنا المفضلة، ونلبس ثوبنا المفضل، ولا نسافر حين نريد أن نسافر، ولا نداعب أطفالنا كما نريد أن نداعب، ولا نذهب معهم نحو الشواطئ نلعب بالرمل معهم نركض وراءهم، نضحك معهم ونشاغب، ولا نبتسم كما نريد أن نبتسم، لأن الابتسام عندهم محرم، واللهو البريء عندهم محرم، وكل شيء ينبض بالبهاء والجمال والحياة محرم، هم لا يحبون الشمس، ويكرهون النهار، ويعشقون لون الظلام الدامس، كل فصول السنة عندهم سواء، لا فرق عندهم بين الربيع وبين الشتاء، ولا بين شقائق النعمان والهندباء، وكل الأشياء عندهم سواء، حتى أشيائهم لا تشبه الأشياء، الماء عندهم غير الماء، والنماء عندهم يعني الفناء، لا يفرقون بين البحر والنهر، والحر والقر، والسكر والمر، والخير والشر، والكر والفر، لا يفهمون معنى للزمن، ولا يجيدون التقويم الآلي، وكيف يكون الارتقاء، ولا يفقهون شتلة الزرع، ولا حوض السمك، ولا عيون الماء في النوافير، ولا الجلوس على المقاعد، ولا طعم التوت، ولون العسل، وظل الدالية، ولا المناديل المعطرة، ويغضبون إذا ما رؤوا ابتسامة تتبعها ابتسامة، أو علامة اندهاش تتبعها علامة، أو طفلة تحمل بين يديها دمية تشبه شكل البرتقالة، شتاؤهم ثقيل، وصيفهم كليل، وريحهم من شدة الغل بليل، لا يفرّقون بين السناء والسناء، ولا بين المها والظباء، ولا بين الراحة والعناء، ولا بين شرفة الخراب، وشرة النماء، ولا يعرفون الفرق بين الماء المقطر، وماء السماء، لا الأرض عندهم أرض، ولا السماء سماء، ولا الهوى هواء، ولا يفرقون بين حرف الجيم وحرف الحاء، أو بين الهمزة وحرف الهاء، أو الضجيج والإصغاء، أو الجلبة والضوضاء، ولا الصحارى والحدائق الغناء، يعشقون الدم والظلام والخراب والسواد والرماد والفناء، حتى الطوفان الكثيف يريدونه أن يخشى كل المدائن البيضاء على حد سواء، يا لتعس البرابرة الأشقياء.