إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل، وإنا بفراقك يا قرة العين وبهجة النفوس لمحزونون... رحم الله جدي عبدالله بن سعد الرويشد الذي وافته المنيَّة قبل أيام قلائل عن عمر ناهز 81 عاما كانت حافلة بالعطاء والعلم والأدب... رحل تاركاً لنا إرثاً مباركاً من المؤلفات النافعة، والسمعة الطيبة،، والقدوة الحسنة والإحسان... إذ لم يكن ـ رحمه الله ـ مجرد والدٍ بل كان معلماً وناصحاً وصديقاً يعاملك بالود والعطف واللطف... وكنت أستشيره دائما فيما يواجهني من مصاعب، وما يستشكل عليَّ من أمور، فأجد فيه العزاء والعون... فقد كان نهراً متدفقاً من الحب والعواطف الجياشة؛ فتعلمنا منه الصبر والمثابرة، وكسب القلوب، وأساليب التعامل القويم.
رحل جدي الحبيب وقدوتي وملهمي في الحياة... وها أنا أكتب هذه الكلمات المتواضعة في رثائه وتأبينه!!... فهل أحسبني أقدر على الوفاء بحقه أو رد جزء من عطاءاته؟!
كان ـ رحمه الله ـ عضوا مؤسسا في مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر بالرياض منذ عام 1380هـ، وعضوا في نادي الرياض الأدبي، وعضوا في رابطة الأدباء بالقاهرة، وقد حصل ـ رحمه الله ـ على درجة الليسانس من كلية اللغة العربية التي تخرج فيها عام 1381هـ: 1961م وكان من المتفوقين في حينه... ونال درجة الدكتوراه من الجامعة اللبنانية، وله جملة من المؤلفات القيِّمة، من أبرزها:
1 - الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب في التاريخ، ويقع في مجلدين، ويُعد من أهم المراجع التاريخية في تاريخ شيخ الإسلام ودعوته الإصلاحية المباركة، خصوصا ما يتعلق بآراء العلماء في دعوة الشيخ وإنصافهم لها.
2 - حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وهو كتاب مختصر وجامع، وقد ألفه بناء على اقتراح تلقاه من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ بإخراج كتاب مختصر يقدم لمحات أساسية عن الدعوة الإصلاحية السلفية في الجزيرة العربية.
3 - قادة الفكر الإسلامي، ويمثل ترجمة لأبرز العلماء والمفكرين في تاريخ الأمة.
4 - أيام في تونس، وهو كتاب من أدب الرحلات ألفه في أعقاب رحلة رسمية قام بها لتونس ضمن وفد من رابطة العالم الإسلامي برئاسة معالي الشيخ محمد سرور الصبان عام 1388هـ.
5 - تحقيق كتاب (في قلب نجد والحجاز) للرحالة المصري محمد شفيق أفندي، وهو كتاب ماتع ولطيف في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية في الجزيرة العربية وبيان طبيعتها الجغرافية، وذلك خلال رحلة قام بها المؤلف عام 1926م.
كما كانت تربطه علاقات وطيدة بالعلماء والأدباء، وله معهم لقاءات ومجالس عامرة بالعلم والثقافة والأدب، وحينما أهدى باقة من مؤلفاته إلى فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ رحمهم الله جميعا ـ فرد عليه بأبيات شعرية يشكره فيها، منها:
خذها إليك تحية الإعجاب
بطموح نفسك يا فتى الأحبابِ
أهديتني كتبا دبجت سطورها
بيراعـك السيَّال ذي الإخصابِ
فوجدتها أسفار حق زانها
مضمونها من سنة وكتابِ
لقد رحل الوالد عن دنيانا الفانية بعد معاناة مع المرض... وهو صابر محتسب، وخلَّف في النفس حزنا عميقا وحرقة مضنية؛ فالفراق صعب ومرّ، خاصة لمن كان يملأ علينا الدنيا أنسا وبهجة وسعادة. وصدق شوقي حينما قال:
وَكُلُّ بِساطِ عَيشٍ سَوفَ يُطوى
وَإِن طالَ الزَمانُ بِهِ وَطابا
وَلا يُنبيكَ عَن خُلُقِ اللَيالي
كَمَن فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَالصَحابا
رحل لكن ذكراه باقية في قلوبنا ونفوسنا، ويكفي ما يناله من المحبة والقبول، وبحمد الله فلقد كانت جنازته مشهودة بجمع من معارفه ومحبيه يتقدمهم الأمراء والعلماء.. فاللهم اجعل هذا الجمع من الناس شفيعا له يوم القيامة، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه» (رواه مسلم)، وإذا كان الناس شهداء الله تعالى في أرضه... فحريٌّ بنا أن نغبط من يرحل بمثل هذا الإرث من الحب والثناء؛ لأن السمعة الحسنة عمر ثان، كما قال الشاعر:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
رحمك الله يا جدي وأكرم مثواك، وجاد عليك بالرضا والرضوان، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعك بأحبابك وبنا بمنه وفضله.