بعد أن يتمرد على الصيف بخضرته، ويُخزن في ردهات أراضيه الخصبة، برودة تغرق النفوس سكينة وراحة، ريفنا الأخضر المضوع برائحة الشجر والريحان، المرخي ظلاله على أبدان كل شيء.. نكمل نحن صورة التبريد تلك، برش البراحات الرملية بالماء، ثم برش السطوح أيضاً، فما ننتهي من صلاة العشاءين، ويجف الماء جيداً، نفرش فرش النوم، لتتنفس هي أيضاً رائعة البرودة ونسيمات النخيل العليلة التي تسكن خلايا أجسادنا، وتشنف مساماتها، فترفع منسوب طاقتها، فتكتمل أيضاً أنشودة الهدوء ولفظ الوصب، ونفتح لنا مشروعاً إلى الحياة.
خالي العشريني، صعد إلى السطح، بعد أن انتهينا من فرش مناماتنا، بحجة أنه سيركِّب عليها (الناموسية)، الخيمة الشفافة جداً، التي تقي من البعوض، أثناء النوم تحت النجوم اللامعة والسماء المعتمة.
لحظتُ خالي (محمد) حين صعوده.. وبعد دقائق، لحقتُ به، لربما يشاركني القفز فوق الـ (ساس) السور الصغير الفاصل ما بين السطح الذي ينام فوقه خالي، وما بين السطح الذي أنام فوقه وإخوتي وأخواتي.. ودون تعمد، تسللتُ بهدوء فوق العتبات الجصية للدرج المبني فوق الجذوع، خوفاً من السقوط.
صرتُ أصعد الدرج، وكلما اقتربتُ إلى السطح، بدأتُ أسمع همساً وهسيساً هادئاً ناعماً ينساب كماء عذب يسير في مجرى زراعي إلى أرض للتو كشطت قشرتها الفارغة ما بين الشجيرات الصغيرة.. لم يتباد على ذهني بأنه صوت خالي، لأنه لم يتكلم بمفرده، بل صوت أبناء الجيران، الذي عادة ما يسمع في مثل هذه الأوقات، التي تبدأ فيها آيات الصمت والسكون الليلية لمجمل المخلوقات.
الأصوات كلها تأتي مهما كانت أشد همساً، وحين ذاك، لا صوت يعلو ليخترق هجعة الليل، إلا صوت أنفاسنا القوية، أو وغى البعوض الذي يمر شهابياً بالقرب من آذاننا، أو شخيرنا القاسي، أو عواء الكلاب من بُعد، أو صرير الجُدجُد أو الجندب (اصرار اللّيل).. وما يساعد ذلك إلا كثرة الأسوار غير المرتفعة التي تفصل ما بين بيوت الجيران وبيوتنا..
كنتُ جريئة تماماً، لا أخاف الليل، رغم أن والديّ يحاولان إخافتي بذكر (العجل المحدد) أو (أم الخضر والليف) وغيرهما من تلك الأساطير.. صعدتُ ووجدتُني بالقرب من رجلي خالي، والغريب أنه لم يشعر بي لصغر حجمي في عمر ناهز الستة ربيعاً.. سمعته يتفوه ما بين الفينة والأخرى بكلام لطيف، لكني لم أفهم مكنونه، رغم اقترابي منه.
استمر طويلاً، بينا كنتُ في غاية الاستغراب، وطرح الاستفهامات على نفسي: هل يتكلم مع أحد في الجانب الآخر من جدار الجيران، دون أن أراه، ولِمَ لمْ أسمع صوت المتكلم الآخر.. أم أنه يكلم نفسه؟!!
فما كان مني إلا أن سحبتُ ثوبه، منادية: خالي.
وإذا به يشهق، ويلتفت إليّ مرعوباً..
فسألته ببلاهة: أنت تتكلم مع الجدار؟
فأجابني بعد تلعثم، وصمت قليل، وكأنه يحدث أكابر الأسرة: ها، إيه.. أكلم الجدار، أقصد أكلم نفسي.. أنا كل فترة أكلم نفسي هنا لأرتاح وأخفف عني تعب الحياة...
لكنه سرعان ما غير نبرة صوته، فجاءتني نبرة قاسية، متوحشة: أنت، ما الذي يعنيك؟.. ها!!.. وما الذي أتى بك إلى هنا؟.. هيا، انزلي.. انزلي..
ومع هذا لم تزل ألوانه متقلبة، وعلامات الخوف بادية على ملامحه، لا شك أنه خائف من أن أخبر أمي أو أحد أفراد أسرتنا، فتنشأ عن ذلك مشكلة ما..
طردني بقسوة، وراح يشغل نفسه في ترتيب فراشه، وتركيب خيمته.. بينا عدتُ إلى الأسفل، كلي استغراب وشجن كبتّه في داخلي، والأغرب أني طوال السنين المنصرمة لم أتكلم عن هذا أبداً، لقد تناسيت الموضوع نهائياً مذ لحظته.
قبل قليل، حينما كنتُ أداعبها طفلتي الأولى، ونشاهد مسلسل (درب الزلق)، للمرة العاشرة تقريباً، لجمال حكايته التي تحاكي واقعاً من واقع حياتنا.. دار مشهد (سعد وصالحة) وهما فوق السطوح، فغمز خالي الأكبر، خالي محمد، وقال ضاحكاً، بصوت مسموع: (كيف حالك يا سعد؟).. فتبسمتُ بينما أرمق خالي محمد الذي اكتفى هو أيضاً بأن رمقني بعين الحياء والابتسام.. ولأجل أن أخبر خالي الأكبر - الذي فهمتُ من مقالته بأنه يعلم بما كان يفعله أخوه - بأني فهمتُ ما يعنيه مباشرة، قلت له: (إيه، وبنت الجيران فطوم زوجة خالي، هي صالحة).