كنت عند البوابة رقم سبعة من مجمع صحارى بمدينة الرياض حيث أوصلني سائقي مع أبنائي إلى هناك. كان هذا في عصر أحد أيام شهر أغسطس الجاري، حيث تؤكد والدتي -حفظها الله- أننا (وتقصد هذه السنة) لم نشهد الحر (الصدقي) أو (طباخ التمر) كما يسميه سكان المملكة وأن الله لطف بعباده خلال شهر رمضان وما تلاها من ست من شوال...
ولذا ففي هذا الشهر وهو يمثل منتصف فصل الصيف لا يبقي في العادة في الديار إلا من لا يستطيع المغادرة لسبب ما مهما تنوعت الأسباب سواء كان ارتباطا مهنيا أو ارتباطا أسريا أو عدم قدرة مالية (وهو الأعم الأغلب) أو أن نبقى لرعاية كبير أو صغير محتاج أو مريض أو ما شابه من ظروف اضطرارية.. بمعني أن الكثير ممن سكان مدننا وتحديدا في الوسطي حيث يشتد الحر أو في المدن الساحلية حيث يشتد كلاهما: الحر والرطوبة فلا يبقي أحدا. من يبقَ في الديار خلال هذا الشهر سيضطر إلى صنع الكثير لكي تمر أيامه بسلام.
لذا وتحديدا وفي هذا الشهر تجد أرباب الأسر سواء كانوا رجالا أو نساء (ممن يعملون) حيارى مما يحل بأسرهم التي ينقلب نظامها رأسا على عقب فترى العائلة في حالة من السبات خلال النهار حيث الحرارة والرطوبة التي لا تطاق لكن وحين يهل الليل يبدؤون السهر صغارا وكبارا (ممن لا يعملون بالطبع) سواء مع الأصدقاء أو الكمبيوتر أو وسائل التواصل الاجتماعي خلال ليالي الصيف رغم قصرها.
في هذا المناخ سنحاول جميعا إيجاد مناخ مشترك يتيح للجميع فرص الاستمتاع بالصيف مع العائلة والأصدقاء لكن ما أثار دهشتي هو أن أقف أمام البوابة المذكورة وأجد رجال الأمن السعوديين يقفون أمام رجل من دولة آسيوية ومعه ابنه محاولين فرض شروطهم (الغريبة) عليه حتى يتسلوا بمراوغة السلطة والشعور بالاستئساد على أحد.. أيا كان فقد منعوه من الدخول لأنه رجل (رغم أنه كان يصحب ابنه الصغير) (ولابس شورت) (أيضا)!! قال بالإنجليزية: الدنيا حر.. ماذا تنتظر مني أن ألبس؟ لست سعوديا حتى أضطر للبس الثوب؟ وأنا هنا لأن عائلتي في الداخل؟ تدخلت وسألت الحرس الذي كان سلطويا بامتياز (فمتى تسنى لهؤلاء البسطاء أن يمارسوا السلطة على أحد كما يمارس عليهم كل يوم من خلال طقوس حياتهم اليومية في المنزل.. في الشارع.. في المسجد. الخ.): سألتهم: ألم يستصدر الأمير سطام -رحمه الله- قرارا يسمح للشباب بدخول المجمعات؟ أجاب المسكين البسيط: لا أعرف أي شيء عن هذا. وظيفتي أن أنفذ أوامر الإدارة وهي تقول: يجب منع العزاب والشباب من دخول المجمعات التجارية كما طلبت الهيئة؟ في لطف مغرق أجاب الرجل الآسيوي: لا يهم شكرا لمحاولتك كسعودية وأنا أقدرها وذهب في حاله؟
بعد أسبوع كنت أهم بدخول بانوراما (المجمع التجاري الفاره) الذي يقع في حي سكن تقطنه أهم العائلات الثرية في مدينة الرياض (أي أن هناك تنوعا طبقيا يجب دراسة آثاره الاجتماعية على سلوك المرتادين لهذه المجمعات)! عند البوابة الرئيسية سمعت نقاشا حادا باللهجة المحلية بين شابين وحارسين للمجمع؟ كان الحراس يقولون بمنع الشباب من الدخول ورد الشباب بالصراخ وتفنيد حجج الحراس الضعفاء (الصراع القيمي الآن على أشده: بين حارسين لا يملكان القيمة الاجتماعية المطلوبة في مجتمع قبلي كمجتمعنا يعطي القيمة لاسم العائلة أو ثروتها أو سلطتها الحكومية أو علاقتها بالمتنفذين في الجهاز الحكومي وبين حراس يتضح من مهنهم ورثاء حالهم طبيعة الواقع الاجتماعي الذي يعيشونه لكنهم يتنفذون من خلال قوى اجتماعية مساندة لما يفعلون مثل الهيئة والنظام الاجتماعي والثقافي القائم وهي القوى التي استطاعت أن تعيق قرارا أميريا سابقا بالسماح للعزاب بالدخول لهذه المجمعات، استصدره الأمير سطام بن عبدالعزيز -رحمه الله- في شهر 3 من العام 2012:
(http://sabq.org/BEefd) قرر الأمير سطام بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض بعدم منع الشبان العازبين من دخول الأسواق والمجمعات التجارية, بناء على توصية لجنة مشتركة من الإمارة والشرطة وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يشار إلى أن الشبان في السعودية دون سن الخامسة والعشرين يشكلون بين 55 إلى 60 في المائة من السكان).
هذه المرة وفي هذا المجمع.. لم يتراجع الشاب: صرخ في يأس: أنا إنسان وأحتاج إلى التبضع من الداخل؟ فكرت في حسرة: لو ذهبنا إلى أي من مدن العالم ومنعونا من الدخول واضطررنا لتبرير حاجتنا إلى أن ندخل مجمعا تجاريا يضم المحلات والمقاهي ونقط الإعلان التجارية ومصلى؟ ماذا كنا سنقول عنهم؟
نظر رجل الأمن في يأس قائلا: أنا فقط أنفذ أوامر إدارة المجمع؟ صرخ الشاب في يأس: تبا لك ولإدارتك البائسة ولا تلوموننا لو فجرناكم جميعا؟
ذهلت من الرد.. شاب بسيط لا يبدو على محياه أي من (المظاهر الداعشية) التي عرفناها في سنواتنا الأخيرة بين من (تأسلموا) من شبابنا.. لكنه محبط.. بسبب (صنمية المفاهيم) المحلية التي لا تجد متسعا حتى لدخول مجمع تجاري فقير لا يحوي بين جنباته أيا من المتع التي يجدها أي شاب في أي مجمع حول العالم (الآخر خارج حدودنا).. لا سينما... لا فرق موسيقية ولا أي نوع من الترفيه.. وفي مدن قاحلة كمدننا... لا مسرح ولا بحر ولا سواحل ولا متاحف.. كيف للمرء وللشباب أن يعيشوا؟ لا تستعجبوا إن فجرونا؟
أرجو أن يتذكر مترفونا أن قدرتهم على السياحة خارج حدود هذا الوطن كل صيف لثلاثة أشهر أو أكثر لن تحمي هذا الوطن من الغرق... صرختي: أنقذوهم قبل أن يغرقونا.