لم تُخفِ المؤسستان توقعاتهما المستقبلية بإمكانية حدوث عجز بالتزاماتهما المالية، رغم أنها قد تحدث بعد قرابة العشرين عاماً القادمة، إلا أن هذه المدة لا تعد زمناً طويلاً عندما تكون الحسابات لأمور عامة، وخصوصاً أنها تعتمد على حسابات اكتوارية دقيقة؛ ما يعني اتخاذ إجراءات استراتيجية فعالة لتخطي احتمالات العجز المستقبلي. وبما أن التصريحات جاءت بأكثر من مناسبة من قِبل مسؤولي المؤسستين، فإن الحديث عن المستقبل يصبح غير كافٍ إذا لم يتم الرجوع للواقع الحالي لمواردهما من الاشتراكات والاستثمارات، وحتى مراجعة الماضي لتاريخ استثماراتهما تحديداً وتقييمه.
فلم يعد هناك احتمالات عديدة لتقييم مستقبل قدرة المؤسستين على الوفاء بالالتزامات بعد سيل التصريحات والنقاشات التي دارت قبل فترة بمجلس الشورى عنهما، بل المقترحات التي قدمت لدعمهما بمبالغ ضخمة؛ ما أعطى تأكيداً أن العجز قادم ولو بعد عقدين من الآن. كما أن دعم مؤسسة التقاعد لمقترح رفع سن التقاعد إلى 62 عاماً هجرياً للموظف؛ ما يعادل 60 سنة عمراً بالميلادي، يؤكد الحاجة لتعزيز الموارد، ورفع حجم الاستثمارات، وتأخير عمر استحقاق التقاعد. يضاف لها ما اتضح بأن «ساند» يدعم موارد مؤسسة التأمينات، رغم أنها قالت إن البرنامج يدعم جوانب اجتماعية أهم من الحصول على أموال جديدة للمؤسسة. لكن، وبعيداً عن أي إجراء اتخذ أو سيتخذ مستقبلاً لتعزيز موارد المؤسستين، فإن النظرة المستقبلية تتطلب تغييراً كبيراً؛ حتى تتكامل الإصلاحات أو آليات التطوير في أدائهما.
فعند قراءة المعلومات التي تصدر عنهما حول الاستثمارات تجد أن هناك أرقاماً جيدة تتحقق. فالعوائد تعد أعلى بكثير من صناديق معاشات التقاعد بالعالم، وتكاد تكون بالمنتصف، وتتراوح حول 7 إلى 8 في المئة، وإن كانت أقل بكثير من بعض الصناديق القليلة عالميا التي تحقق ما يفوق الـ15 في المئة. لكنها تبقى بالمعيار العالمي جيدة. فبعض الصناديق الكبرى لم تصل عوائدها إلى 4 في المئة، كصندوق المعاشات الهولندي الذي يعد من أكبر عشرة صناديق عالمياً، بينما اقتربت نسب عوائدهم من أكبر صندوق بالعالم وهو الياباني الذي حقق 9 في المئة، ويبلغ حجم أصوله 1.3 تريليون دولار. فإذا كان الأسلوب الاستثماري يتم بطرق ومعايير تحقق عوائد جيدة، وهي تحسب على متوسط لسنوات عدة، ونسبة الداخلين لسوق العمل سنوياً أعلى بكثير من المتقاعدين، فكيف يمكن تفهم التوقعات بحدوث عجز بالالتزامات مستقبلاً؟
وبحسب الواقع السكاني، فإن المجتمع السعودي فتي، ونسبة أعمارهم دون الـ20 عاماً تفوق النصف، وجلهم يتوقع أن يكونوا مشتركين بالمؤسستين ولعدد سنوات طويل؛ لذا فإن الإيرادات يتوقع أن تكون دائماً أعلى من النفقات، سواء من الاشتراكات أو عوائد الاستثمارات. فحجم الاشتراكات التي تدفع لمؤسسة التأمينات الاجتماعية سنوياً على عدد 1.6 مليون مشترك سعودي يفوق 18 مليار ريال، وسيرتفع مع «ساند» إلى ما يفوق 20 مليار ريال، يضاف لها بدل أخطار تدفع على الوافدين بمعدل 2 في المئة، وهي تحقق إيراداً يفوق مليارَيْ ريال، يضاف لها عوائد الاستثمار التي لا يمكن تحديدها بدقة. بينما النفقات على التقاعد والأخطار لا تتعدى 13 إلى 15 مليار ريال سنوياً؛ ما يعني أن الأوضاع جيدة بالتأمينات إذا اعتبرنا أن نسب التوطين بالقطاع الخاص في نمو كبير؛ ما سيرفع من الإيرادات كثيراً.
وبمقارنة ما يُعلن عن إدارة جيدة للاستثمارات، ومستوى اشتراكات كبير، مع ما أُعلن عن الحاجة لتدارك العجز المحتمل، فإن المعالجة الدقيقة لا تقف بهذه الحالة عند التفكير بتعزيز الموارد من إجراءات، يكون المشترك هو أكثر الأطراف تحملاً لها، كرفع سن التقاعد أو إضافة نسب جديدة للاشتراكات، بل يفترض النظر لنوعية الاستثمارات وجدواها المستقبلية بتحقيق أفضل عائد ممكن، وطرق إدارتها وشفافية المعلومات عنها، مع اللجوء لهيكلة المؤسستين حسب الحاجة التي تحقق الهدف بتحقيق عوائد أفضل على استثماراتهما. ويتطلب ذلك استقطاب كفاءات وخبرات متخصصة عالية المستوى لتوفير أفضل نماذج الاستثمار والإدارة والكفاءة، وإلا ستكون الأوضاع بعد أي حلول تنظر لجانب، وتغفل جوانب أخرى بلا قيمة حقيقية؛ لأن المشكلة ستتكرر حتى لو بعد سنوات طويلة على اعتبار أن صناديق التقاعد حساباتها بعيدة المدى دائماً.
التحليل العميق والتخطيط البعيد لمستقبل المؤسستين يستند إلى مدى الشفافية والإفصاح بكل تفاصيل أدائهما ومؤشرات قياس الأداء العلمية المتعارف عليها؛ حتى يمكن الوصول لحلول استراتيجية بعيدة المدى، تحقق الهدف الاقتصادي والاجتماعي المنوط بهما، وتلغي كل الجدل الذي يدور حول كل قرار أو إجراء يُتخذ منهما، يتحمل المشترك نصيباً منه دون أن يعرف أسبابه ونتائجه، وإلى أي حد تصب في مصلحته.