أمضيت زهاء الثلاثة أعوام بالأرض الطيبة المملكة العربية السعودية، وذلك في فجر السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم، كانت فترة وضيئة زاهرة من عمري، تشبع فيها وجداني بشحنات إيمانية خالصة.. كان لساني فيها رطباً بذكر الله، وغشت قلبي أنوار الهدى والرشاد، كما تعطر وجداني بأريج قبر الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم. كنت يومذاك في نضارة وريعان الشباب، عندما وطأت قدماي الأرض الطاهرة مكة المكرمة مهبط الوحي وموطن الرسالة، ومدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، طيبة الطيبة التي تضم إلى صدرها قبر رسولنا الحبيب عليه وعلى آله وصحبه أجل الصلوات وأطيب التسليم، غادرت السعودية لوطني السودان بعد انقضاء فترة إعارتي الرسمية.. تركتها يومذاك وكانت تحبو لاهثة صوب مراتب النماء والبهاء والازدهار... وتصعد درجات الارتقاء والشموخ بخطىً ثابتة بجهد ومشقة... تركتها يصحبني التفاؤل بأنها سرعان ما ستخترق الصفوف الأمامية لحسان دول العالم المتقدم لتقبع بفضل الله وبدعوات سيدنا إبراهيم عليه السلام وببركة الحرمين الشريفين وبهمة حكامها الأفذاذ ومواطنيها أعلى قمم الألق والتألق، واليوم جئتها في أعقاب شهر رمضان الفضيل معتمراً ولحضور مناسبة عقد قران أحد أبنائي بمدينة الرياض الباذخة، دخلتها فرحاً بعد مضي ما يقارب الأربعة عقود من زيارتي الأولى، وتشرفت بزيارة بعض مدنها الرئيسة (الرياض، الطائف، مكة المكرمة، المدينة المنورة والقصيم). ذهلت لما رأيته بأم عيني...
المملكة قد تغيرت معالمها وتبدل حالها، فقويت شوكتها واشتد ساعدها.. أصبحت كنبتٍ أينع وغرس أثمر، أكثر ما لفت انتباهي ما اعترى الحرمين الشريفين من توسعة وفخامة تناسب هيبة وعظمة المكانين المقدسين، وكذلك الصروح الشامخة من حولهما التي توشحت بالجمال وتزينت بالفن المعماري العربي والإسلامي الموروث... وتلك الأبراج الأسمنتية والزجاجية الشاهقة التي تكاد تعانق السحاب في معظم مدن المملكة، هذا التطور الملحوظ في شتى المجالات لم يتحقق بلا أدنى شك إلا بالحكم العادل والراشد وبالعقل الكيس المستنير وبعفة اليد واللسان وبالغيرة على الإسلام والمسلمين، تعاقب على هذا الحكم نخبة وعقد نضيد من أبناء الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، والشاهد أن الاستدلال على عدالة حكمهم يتجلى فيما وصلت إليه المملكة من رخاء ونعيم واستقرار وفي خدمتهم للحرمين الشريفين وضيوف الرحمن، وكذلك في المحافظة على الإرث الإسلامي وكل تعاليم الدين الإسلامي وتجلى كذلك في حجم المساعدات الضخمة لكل بلدان العالم العربي والإسلامي، وفي الوسطية التي اتخذوها منهجاً وسبيلاً للحكم، ولقد رأيت ومازلت أرى عدداً من الجامعات الحديثة والمدارس الفخيمة المنتشرة داخل مدينة الرياض وفي شتى أنحاء المملكة، تعرفت على البيئة المدرسية الجاذبة والمناهج التعليمية المكتملة والسلم التعليمي الثابت غير المتغير. واستيقنت أن أبناء عبد العزيز ومعاونيهم قد طوعوا كل الممكن وبعض المستحيل من أجل التعليم، وكذلك أكثر ما أدهشني العدد الهائل من المستشفيات الحكومية والخاصة ومدى فخامتها ونظافتها وانضباطها، والشوارع الأسفلتية الواسعة والكباري والجسور الفخمة ومدى نظافتها وتناسقها بانتظامٍ يسر الناظرين، حقيقة إن هذا العقد الفريد من الحكام الأمناء الأقوياء الذين تعاقبوا على سدة الحكم يتقدمهم ربان السفينة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ، حفظه الله وأبقاه ذخراً لوطنه وبلاد المسلمين، كل هؤلاء الحكام قد سخروا الثراء الهائل والنعيم الذي حظيت به المملكة لراحة مواطنيها وخدمة ضيوف الرحمن، فلا تكاد تحس أنهم قد بخلوا عليها بشيء فمدوا أياديهم البيضاء لبسط الخدمات، حتى المساجد الفخمة لا يكاد يخلو منها حي، بل قد تجد في الحي الواحد عدداً من المساجد التي تكتسي بثوب الوقار وتشع منها كلمة التوحيد، فتذكرت مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمن ابتغىالعزة بغيره أذله الله تعالى) والشواهد على ذل المسلمين في عصرنا الحالي كثيرة، ولكني أسأل الله أن يجنب بلادنا وبلاد المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يبسط الأمن والاستقرار في ربوع كل الدول العربية والإسلامية إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يحفظ المملكة مهد حضارة الإسلام ومهبط الوحي إنه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.