واحد وعشرون عاماً انقضت على اتفاقية أوسلو ومازالت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بين انتكاسة وأخرى تتوسع معها المستوطنات الإسرائيلية ويضيق بفعلها الخناق على الفلسطينيين الذين لم يكسبوا خلال العقدين الأخيرين من المفاوضات ما يجلب التفاؤل. الآن ومع الحرب الشعواء ضد قطاع غزة أُعيدت للواجهة عدداً من الحلول الدبلوماسية لعل أبرزها يدور حول فرص التعايش السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وإقامة الدولة الواحدة. في لقاء مع النيويورك تايمز يقول طارق أبو مازن، ابن الرئيس الفلسطيني الحالي، إنه مع إقامة دولة واحدة تجمع العرب واليهود في ظل حقوق متساوية لجميع الأطراف. يؤيد هذا التوجه ستيفان سلامة، الأستاذ بجامعة بيرزيت ومدير إدارة المساعدات والتنسيق مع الدول المانحة في السلطة الفلسطينية، في معرض اقتراحاته لما يجب عمله والسعي له من قِبل الفلسطينيين تحديداً للخروج من نفق المفاوضات المظلم الذي لم يقد إلى أي حلول جذرية أو حتى نسبية.
في حقيقة الأمر فإن حل الدولة الواحدة التي تجمع بين العرب واليهود كان قد قدمه المناضل والمفكر إدوارد سعيد من الجانب الفلسطيني، تلته محاولات مختلفة لخلق خريطة طريق لتطبيقه بحيث يكون مقبولاً للأطراف المتناحرة. في الحقيقة فإن القيمة العلمية للمفكر إدوارد سعيد بوصفه أستاذاً في جامعة كولومبيا ومؤلفاً لكتاب الاستشراق وأفضل من وصف النكبة واقعاً للقارئ الغربي جعلت المقترح أكثر تداولاً وانتشاراً وربما قبولاً لدى الكثيرين. في مذكراته، خارج المكان، استعرض إدوارد بلغة أدبية أخاذه مثالاً حياً لمعاناة الفلسطينيين وسلب أرضهم وتشريدهم وكيف أن حقوقهم المسلوبة تواجه صمتاً دولياً محيراً. تبع ذلك الكثير من الكتب والمقالات والمحاضرات والمناظرات لإدوارد سعيد حول حق الفلسطينيين في العودة وخيار الدولة الواحدة.
لم يكن إدوارد يحارب وحيداً على هذه الجبهة فقد كان مفكرون كإقبال أحمد ونعوم تشومسكي وإبراهيم أبو لغد ومروان بشارة يتفقون تماماً مع أطروحته بل إن صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، يرى قابلية هذا الحل للنقاش متى ما توقفت إسرائيل عن بناء المستوطنات. كذلك فإن من الجانب الإسرائيلي من يدعمها مثل وزير الدفاع الأسبق موشيه آرينز والمتحدث الرسمي الحالي للكنيست روفين ريفلين ولكن ربما بمفهوم وآلية يختلفان عن تلكما التي يراها الفريق الأول. وعلى الضفة الأخرى تقف المجموعة الكبرى من الجانبين معارضة هذا الاقتراح بالكلية لأسباب ترتكز على قناعات كلا الطرفين أنه الأحق بالأرض والسلطة والسيادة ولا ينبغي له التنازل لعدوه كي يصبح مواطنه.
لقد خلق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حالة من الارتباك حتى بين المعتدلين من طرفي الصراع جعلت مقترح الدولة الواحدة يعيد نفسه مع كل انتفاضة أو حرب دونما أي تقدم يُذكر. يتمسك الجانب الفلسطيني بحقه في البقاء والسيادة والمقاومة ضد العدو الإسرائيلي الذي يقلب ظهر المجن بالتوسع في بناء المستوطنات ودعوة اليهود في كل مكان للعودة إلى ما يزعمون أنها الأرض الموعودة. بعيداً عن واقع الصهاينة وفي مقدمتهم هيرتزل الذين لم يمنعهم إلحادهم بالخالق أن يتورعوا عن ادّعاء أنه اختار فلسطين أرضاً موعودة لهم. وبعيداً عن الرأي الآخر المؤيد للفلسطينيين الذين اغتصبت أرضهم ونفوا منها دون حق العودة إليها. فإننا وإن افترضنا أن الطرفين كانا أكثر قبولاً وجدية في نقاش فرضية الدولة الواحدة فستظل هناك الكثير من الأمور الشائكة التي يجب تفكيكها وحلها للوصول الى الأهم من إيجابيات هذا الحل وهو إمكانية تطبيقه بالمقام الأول.
لقد استحوذت جدليات قبول ورفض التعايش على جزء كبير من عمل المفكرين من الجانبين دون أن يقدم أحد حلاً تفصيلياً يتحول معه النقاش من الماهية الى الكيفية بحيث يكون رفض الحل ليس مرتبطاً بكينونته وإنما ببعض تفاصيله التي حتى وإن لم يتم الإتفاق عليها فإنها على الأقل ستكون مرآة للتحديات القادمة التي يجب على الطرفين الوصول إلى تسوية بشأنها متى ما أرادا المضي قدماً. غير ذلك فإن شرف المحاولة ومكمن الداء سيكون واضحاً لأطراف النزاع وللمجتمع الدولي عموماً. إن المحاولة البائسة التي قدمها معمر القذافي تحت مسمى «اسراطين» لم تقدم أرضية صلبة للحوار يمكن البناء عليها بل قدمها في معرض هوسه بالظهور وتبني الإصلاح الصوري للقضية والتسويق لعبقريته المهزومة.
لذا فإن السؤال المطروح الآن مع تجدد الحوار حول جدوى حل الدولة الواحدة يكمن في مقومات هذه الدولة وتعاطي أطراف النزاع معها. وللإجابة عن هذا التساؤل تقول كارولين جليك في كتابها المثير للجدل «الحل الإسرائيلي: خطة الدولة الواحدة للسلام في الشرق الأوسط» أن حل الدولة الواحدة يقتضي ضم ما تبقى من فلسطين تحت السيطرة الإسرائيلية وإعطاء الفلسطينيين الهوية الإسرائيلية وبذلك تلغى فلسطين من الخريطة نهائياً. وهي في ذاك تستمد شرعية هذا التوجه من نصوص وعد بلفور الذي تقول إنه يجعل من الضفة الغربية بالكامل أرضاً إسرائيلية دون أن تذكر شيئاً عن قطاع غزة. لقد توسعت كارولين في تحديد الهوية الديموغرافية لمشروع إسرائيل الواحدة حيث وضحت أن ما يقال عن الانفجار السكاني في فلسطين ليس سوى خرافة إذ إن هجرة العرب من الضفة الغربية تحديداً في ازدياد في حين أن معدل النمو السكاني لليهود يبلغ ثلاثة أضعاف معدل النمو السكاني للفلسطينيين. علاوة على ذلك فهي تؤكد أن استحلال ماتبقى من فلسطين سيتيح لإسرائيل بناء مستوطنات جديدة يتمكن معها الإسرائيليون من استقبال مهاجرين جدد سيساهمون في تغيير ديموغرافية المنطقة بالكامل بحيث يشكل اليهود أغلبية ساحقة.
لاشك أنه وعلى الرغم من حصد أطروحة كارولين جليك أصداء واسعة حتى بين النخب الإسرائيلية والصهيونية في الولايات المتحدة وإسرائيل، فإنها وبكل بساطة تخالف منطلقات خيار الدولة الواحدة وهي إيقاف العنف وإيجاد مشروع متكامل للمواطنة يخلق أجواء التعايش السلمي بين مختلف الفرق. وعلى المنوال نفسه فإن خيار إقصاء اليهود وإلغاء إسرائيل بالكامل وفرض نفوذ الدولة الفلسطينية من نهر الأردن حتى البحر الأبيض المتوسط، وبغض النظر عن مشروعيته، فإنه لا يتسق والخطوط العريضة لفكرة الدولة الواحدة.
إن المفاهيم الضمنية لفكرة الدولة الواحدة تقوم على عدة أمور رئيسة ومرتبطة ببعضها بعضاً لعل أبرزها: الدستورية، الديمقراطية، المواطنة والمساواة. الآن وبحكم أن إسرائيل هي الطرف صاحب السطوة والإمكانات الأقوى، حسابياً على الأقل، فإن على الفلسطينيين عبء إقناع اليهود بإيجابيات حل الدولة الواحدة وبالتالي تبني أسسها. وهذا يقودنا إلى التساؤل الأهم وهو ما الحوافز التي يمثلها خيار الدولة الواحدة لإسرائيل بمفهومها الحقيقي وليس الإمبريالي الذي قدمته كارولين جليك؟ أعتقد أن معظم الدلالات الآنية تقود إلى استنتاج أن الحافز الإسرائيلي في رفض ومحاربة مفهوم الدولة الواحدة يفوق حافز المضي قدماً في مشروعها إلا إذا كان وسيلة لكسب المزيد من الوقت وتمييع القضية. ولنأخذ نظرة سريعة على الوضع الحالي في إسرائيل للدعائم الأساسية المذكورة لفكرة الدولة الواحدة لتسليط الضوء على دوافع هذا الاستنتاج.
قد يخفى على الكثير أن إسرائيل ليست دولة دستورية إذ ليس لديها دستور مكتوب كما هو متبع في جميع الأنظمة الحديثة بل اكتفت بما يسمى القوانين الأساسية لإسرائيل The Basic Laws of Israel والتي ما زال الجدل حول تمثيلها للدستور قائماً حتى بين كبار قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية. كذلك فإن القوانين الأساسية لاتحوي وصف الدولة بالديمقراطية بل اكتفت بوصفها «برلمانية ديمقراطية» تعطي المواطنين حرية اختيار مرشحي البرلمان على أن تقوم الأحزاب باختيار رؤسائها. وقد امتنع مؤسسو الدولة العبرية عن وصفها بالجمهورية لاستبعاد الدلالات الديمقراطية للنظام الجمهوري. علاوة على كل ذلك فإنه من التناقض بمكان أن تجتمع اليهودية والديمقراطية في وصف دولة مدنية حديثة إذ إن اليهودية لا تساوي في الحقوق والواجبات بين اليهود وأتباع الأديان الأخرى بل إنها لاتساوي بين اليهود أنفسهم وهذا منافٍ تماماً لأهم أسس الديمقراطية. واقعياً فإنه لم يعد خافياً على الجميع مايعانيه العرب والأفارقة من تمييز عنصري واضح من قِبل اليهود وليست عبارة عضو الكنيست الإسرائيلي ميري ريجيف الشهيرة عنا ببعيد حين قال «الأفارقة سرطان يهدد جسد إسرائيل» والتي حظيت بتأييد كبير من مناصري حزب الليكود بحسب تصويت أعده مركز إسرائيل للديمقراطية.
نخلص من ذلك إلى أن إسرائيل لم توفر لمواطنيها الحاليين بما فيهم اليهود المتطلبات الأساسية للبيئة الديمقراطية والعادلة ولذلك فإنه من الجنون أن نتوقع أن تقدم هذه التنازلات الضخمة في سبيل التعايش مع الفلسطينيين بسلام في دولة واحدة وهي لا تكترث بل تسعى لقتلهم في حقيقة الأمر. أكثر من ذلك فإن خيار الدولة الواحدة سيتطلب إعادة النظر في المستوطنات ورفع الحصار عن غزة وإعادة توطين اللاجئين وفتح باب العودة للفلسطينيين في المهجر والذي بدوره سيهدد سلامة اليهود وسيجعل منهم أقلية حتى وإن دعمت هجرة يهود الخارج. كذلك فإنه لم يتعرض أحد للفوارق الاقتصادية والعلمية والتنظيمية بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي والتي سيتكبد الإسرائيليون تبعاتها في محاولة لخلق توازن بيئي لتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص. الواقع يقول إن عرب إسرائيل منعوا من الخدمة في الجيش الإسرائيلي لأسباب واضحة وهم مع ذلك يظلون مكمن خطر في الذهن اليهودي الذي يشعر بأن انضمام عرب فلسطين إلى عرب إسرائيل الذين يشكلون نحو 21 % من إجمالي السكان بحسب آخر الإحصائيات سيشكل كارثة قد تطيح ليس بإسرائيل الصهيونية فقط بل وباليهودية إجمالاً من المنطقة.
بقي موضوع القدس وكيف للصهاينة أن يتخلوا عنها أو يشركوا العرب فيها بهذه السهولة في سبيل إنهاء الصراع الذي يمسكون هم بزمامه.
لذلك أستطيع أن أقول واثقاً بأن حل الدولة الواحدة كان اجتهاداً مبرراً في سبيل خلق طريقة لإرساء السلام في الشرق الأوسط ولكنه في سياق الواقع الحالي بل والمستقبلي ليس سوى أسطورة ووهماً لأن أولى متطلباته أن تنهار مبادئ الصهيونية التي قامت عليها إسرائيل.
هذا ربما لا يعني نفاد الحلول السلمية الأخرى وفي مقدمتها حل الدولتين لكنها تحتاج أكثر وبكثير من جهود منظرها آموس أوز الذي أهدى الأسير مروان البرغوثي نسخة موقعة من روايته «حكاية من حب وظلام» كاتباً بقلمه على صفحتها الأولى «أتمنى أن تفهمنا كما نفهمك وأن تخرج من السجن بسلام».
عاد أوز إلى نيويورك ذلك الحين وما زال البرغوثي في زنزانته حتى اللحظة وكأن «حكاية الحب والظلام» ترمز حقيقة إلى حب فلسطين في قلب أبنائها وظلام كل الحلول أمامهم وإن قصد آموس أوز غير ذلك.