نيويورك - إن إعادة انتخاب رئس كولومبيا خوان مانويل سانتوس مؤخراً، تجلب الأمل لبلد يسعى إلى إنهاء صراع دام نصف قرن من الزمان. ولكن كما هي الحال مع العديد من عمليات السلام، فإن إيجاد التوازن بين التوصل إلى اتفاق مستقر والاعتراف بالمظالم الرهيبة التي حدثت أثناء الصراع ربما يكون مهمة بالغة الصعوبة.
الواقع أن العديد من البلدان والمجتمعات، من نيبال إلى أيرلندا الشمالية، تصارعت مع موروثات من الانقسامات العرقية أو الإيديولوجية أو الدينية والعنف، وبنجاح محدود غالباً. وهذه هي الحال في كثير من الأحيان لأن الآليات التي أنشئت للتعامل مع المصالحة وتقصي الحقائق وتحقيق العدالة بعد انتهاء الصراع، أثبتت أنها غير وافية ومنقوصة.
ففي البوسنة والهرسك، قدمت المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة إسهامات بالغة الأهمية لقضية البحث عن الحقيقة. ولكن الضحايا يشكون من بطء إجراءاتها وغموضها؛ ويرى العديد من صرب البوسنة أن المحكمة انتقائية وتحركها دوافع سياسية.
وفي نيبال، تأخر الاتفاق بين الحكومة والمتمردين الماويين لإنشاء لجنة لتقصي الحقيقة والتحقيق في حالات «المختفين» لمدة سبع سنوات. وعندما استن المشرعون أخيراً تشريع التمكين في مايو - أيار 2013، أصيب الضحايا بالحيرة والصدمة عندما اكتشفوا أن اللجنة سوف يُسمَح لها بالتوصية بالعفو عن جرائم ضد الإنسانية، في انتهاك للمبادئ الدولية ومبادئ الأمم المتحدة التوجيهية.
وفي أيرلندا الشمالية، قوبل اتفاق الجمعة العظيمة، الذي حظي عن حق بقدر كبير من الاستحسان لنجاحه في وقف نزيف الدماء وبدء عملية المصالحة بمقاومة سياسية كبيرة -إلى الحد الذي أصحاب الضحايا بالإحباط الشديد- بسبب عنصر واحد يشكل جزءاً لا يتجزأ من عملية السلام: إنشاء آليات لتوضيح جرائم الماضي.
من المفهوم أن يخشى مفاوضو السلام أن يكون في المساءلة الجنائية عن جرائم الماضي تهديد لقادة وأنصار الجانب الذي يتفاوضون باسمه. وقد افترض كثيرون عن طريق الخطأ -استناداً إلى سوء فهم لتجربة جنوب أفريقيا- أن لجان تقصي الحقيقة توفر بديلاً «ناعما» للعدالة. ونتيجة لهذا، بادروا عن طيب خاطر إلى إدراج هذه الآليات في اتفاقيات السلام (في تجاهل مريح لحقيقة مفادها أن الضحايا يضطرون نتيجة لهذا إلى الاختيار بين طلب العدالة ومعرفة الحقيقة).
على نحو متوقع، ومع تحول لجان تقصي الحقيقة إلى مكون راسخ في العدالة الانتقالية، أصبح المقاتلون السابقون في تخوف وقلق متزايد من تعريض سمعتهم ومصداقيتهم السياسية للخطر الشديد إذا خرجت جرائم الماضي إلى النور. وقد يكون البحث عن الحقيقة مزعجاً ومؤلماً لأي شخص، ولكنه لا يخلو من عواقب خطيرة بالنسبة لأولئك الذين لديهم من الأسباب ما يجعلهم يخشون العدالة.
الواقع أن الوساطة في النزاعات والعدالة الانتقالية تعتمد على لجان تقصي الحقيقة باعتبارها لبنة أساسية للسلام، ليس لأن هذه الجان تقدم فرصة الإفلات من العقاب لمرتكبي أسوأ الجرائم؛ بل لأنها على العكس من ذلك تعزز السياسات الشاملة القائمة على الحقوق والقدرة على الوصول إلى العدالة.
وكما خلصت ندوة أخيرة نظمتها مؤسسة كوفي أنان بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، فإن لجان تقصي الحقيقة تساهم في تحقيق السلام من خلال التأكيد على سيادة القانون والاعتراف بالضحايا ودعم الإصلاح المؤسسي. ولكن لكي يتسنى لها تحقيق النجاح فينبغي لهذه اللجان أن تكون فعّالة ومستقلة وشرعية. ولن تجدي هنا أنصاف الحلول.
لذا فلا ينبغي للجان تقصي الحقيقة أن تعمل أبداً كممارسة لإرضاء البيروقراطية الإدارية وتهدئة الرأي العام المحلي أو المجتمع الدولي، كما شهدنا في نيبال. وحتى عندما يتم منحها صلاحيات ووظائف واسعة النطاق بأفضل النوايا فإن لجان تقصي الحقيقة تُحرَم غالباً من الموائد الضرورية، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الإحباط وخيبة الأمل. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي لمثل هذه اللجان أن يقودها أو يتولى أعمالها أفراد مشكوك في نزاهتهم، وبالتالي تقويض شريعة العملية بالكامل.
وفي المقام الأول من الأهمية، لابد أن تتكيف لجان تقصي الحقيقة مع الظروف الخاصة بكل بلد. فكما رأينا في البوسنة وكولومبيا ونيبال وأيرلندا الشمالية وأماكن أخرى من العالم، تتباين طبيعة الصراعات وكيفية حلها إلى حد كبير؛ وكذا اللجان التي تتشكل لتقصي حقيقة هذه الصراعات. إن الحلول «ذات المقاس الواحد الذي يناسب الجميع» تثبت غالباً أنها لا تناسب أحداً على الإطلاق.
إنه لأمر بالغ الأهمية أن نفهم تفاصيل كل حالة من حلات العدالة الانتقالية بعد الصراع على حِدة. ومن السهل للغاية تجاهل الضحايا أو قمع الحقيقة من قِبَل الزعماء السياسيين في سعيهم إلى التوصل إلى اتفاق سلام. ولكن الاعتراف بحقوق الضحايا شرط لا غنى عنه لتحقيق السلام الدائم. والحق أن المعاناة الإنسانية وكرامة الضحايا أقوى من أن تمحوها تحالفات سياسية بين آخرين، فالماضي يطالب بسداد ديونه: فالعدالة ليست مجرد فكرة مثالية؛ بل هي استثمار في مستقبل أفضل.