للأديب العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع ت سنة 272هـ ألفه للخليفة المعتصم بالله العباسي
حققه وقابله على أصله واعتنى بطباعته ونشره صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز آل سعود
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى -
السياسة هي العلم الذي يُعني بتاريخ الدَّوْلة من حيث تنظيمها ومؤسساتها وسياساتها والقانون السياسي هو القواعد التي تحكم سلوك وتصرَّفات وأفعال الأشخاص من ناحية وشؤون الأمة داخليًّا وخارجيًّا قال عنها الأديب السياسي الصاحب ابن عباد ما يلي: السياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، سوس فلان أمر بنى فلان أيّ كلف سياستهم، وهي التي تعنى بصنع قرارات تلزم المجتمع ماديًّا ومعنويًّا كما أنها ترمز لمطالب يسعى المجتمع لتحقيقها، وضغوط يسعى للتخلص منها سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وهي أعلى أنواع السلطة في المجتمعات الإنسانيَّة وكل ما يتعلّق بهذه السلطة من قوة ونفوذ وحكام ومحكومين، وهذا النفوذ يجعل السلطة السياسة الهادفة تفرض الرغبات على الآخرين بما يعود عليهم بالخير والمنفعة والتطوّر والبناء والنماء.
ومن هنا فقد جاءت السياسة لتحديد واجبات المواطن تجاه حكومة شرعية دبلوماسية تتسم بالاحتواء والإقناع والتنظيم وتحقيق مصالح الدَّوْلة والوطن. وبين يديك عزيزي القارئ الكريم كتاب سياسي دبلوماسي محنك وعنوانه: (سلوك المالك في تدبير الممالك) للأديب العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع المتوفى سنة 272هـ وقد ألفه للخليفة المعتصم بالله العباسي، وحققه وقابله على أصله واعتنى بطباعته ونشره صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود، وهو كتاب مشجر في صحة البدن والعقل مختصر وفي إصلاح النَّفْس وتزكيتها وتقييم سلوكها معتبر، وهو كتاب يجمع طرفًا من وصايا الحكماء والفلاسفة والعلماء وبعض أحكام الأخلاق ودرجات الفضائل وأصناف السير، وهو الكتاب الذي يوجز أقسام السياسات وأحكامها ويبيِّن أهم أركان الملك وأوصاف البشر، تجد فيه كل ذلك وغيره بأسلوب جميل مبتكر، وقد قدم صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود بمقدمة طويلة ماتعة مفيدة أوفى فيها الكتاب حقه. يقول في مقدمته الميمونة ما ماهيته:
(إن من بين الكتب القيمة والنادرة التي تضمها مكتبتنا الخاصَّة، صورة طبعة خطية غير متداولة من كتاب مشجر بعنوان (سلوك المالك في تدبير الممالك - لابن أبي الربيع) كتاب جزيل الفائدة، يبحث في صنوف المعرفة السياسيَّة منها والاجتماعيَّة والفلسفية ويتطرَّق إلى كثير من جوانب حياة الإِنسان، العامَّة منها والخاصَّة، ويبيِّن الطريق السوي الذي يسلكه المرء في تعامله مع نفسه وغيره، والأمور التي يجب أن يراعيها أو يتحرز منها كل معتن بإصلاح أخلاقه ومحب لكمال ذاته) هذا وتتَضمَّن المقدمة محطات هامة، ووقفات بارزة من أهمها تعريف القراء بمؤلف الكتاب شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع -رحمه الله- وهو أول فيلسوف إسلامي في العصر العباسي الأول، وقد ألف الكتاب للخليفة العباسي الثامن، المعتصم بالله بن هارون الرشيد وقد أشادت المقدمة بالخليفة المعتصم بالله وألمحت إلى ملامح حافلة من عصره، عرف فيها بالمعتصم بالله حيث قال: (من هو المعتصم بالله؟ إنَّه محمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور، أبو إسحاق، بويع بالخلافة سنة 218هـ يوم وفاة أخيه المأمون، وبعهد منه، كانت همته في الحروب عالية، كما كانت له مهابة عظيمة في القلوب، وكان يسعى إلى تأسيس دولة واسعة الأرجاء، فهو فاتح عمورية من بلاد الروم الشرقية وخبر فتحه لها مشهور على ألسنة الشعراء) ومن ذلك القصيدة العربيَّة الدرة الذائعة التي أبدعتها قريحة الشاعر الذائع الصيت المعروف وهو أبو تمام حيث قالها بدم متفجر، وعاطفة صادقة، وثناء عاطر، وفخر باهل، ومطلعها المؤثِّر في النفوس:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحدّ بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والريب
وهي قصيدة عامرة، حفظها الماضي، وافتخر بها الحاضر، وصفق لها التاريخ، وهي من غرر القصائد، ونفيس الشعر، وناطق الافتخار، وقد ظلَّت متطاولة على طول الحقب الزمنية، وتتابع السنين المديدة، فلا يذكر أبو تمام، إلا وتلتحق به قصيدة فتح عمورية، ومضمون الكتاب وفحواه يحتوي على أربعة فصول متتالية وهي التالية:
الفصل الأول: في مقدمة الكتاب: تحدث في بدايتها عن علاقة السببية، وخلص إلى نتيجة أن سبب الأسباب موجود وهو واحد وهو الله تعالى، وأن الأليق بسبب الأسباب وموجدها أن يطلق عليه أفضل الأوصاف، كما بيَّن فيها مراتب الإنسان وأنواع الأفعال وحدود المسؤولية الفردية.
والفصل الثاني: في أحكام الأخلاق وأقسامها: ميز في بدايته بين الإنسان والحيوان، فالإنسان ذو فكر وتمييز يختار من الأمور أفضلها، ومن المراتب أشرفها، كما أوضح فيه كيفية اكتساب الأخلاق الفاضلة ومراتب الإنسان في قبولها، واختلاف جواهر الناس فيها.
والفصل الثالث، في أصناف السيرة العقلية الواجب على الإنسان اتباعها والعمل بها: بيَّن فيه أقسام المخلوقات وهي عنده أربعة أقسام (الملائكة والإنسان والحيوان والجماد)، ثمَّ تطرَّق إلى بيان علاقة الترابط بين العقل والعلم والعمل.
والفصل الرابع والأخير: في أقسام السياسات وأحكامها: بيَّن فيه السبب الموجب لاتِّخاذ المدن والعمران والداعي إلى إقامة السياسة في العالم، فهو هنا يَرَى أن الإنسان اجتماعي بطبعه، يحتاج إلى غيره لسد حاجاته.
ثم أردف صاحب السمو الملكي الأمير المبجل عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز المقدمة بملاحظاته الثلاث على الكتاب، والسبب في ذلك جاء على حد قوله البليغ التالي: (إن التعليق على هذا الكتاب سيكون في غالبه في هذه المقدمة وذلك لعدة أسباب من أهمها أن الهوامش الطويلة تذهب بهجة الرسومات والأشجار وتخل بالمقصود منها).
وأخيرًا: فالكتب المشجرة على تنوع أنواعها، وتعدد أشكالها تحفظ العلوم من الضياع والنسيان والاختلاط والمقصود منها التسهيل على القارئ وتبسيط العلوم وهذه المشجرات ضرورية كل الضرورة في معرفة قوة العلم ونصاعته وتأصيله، ومعرفة جذوره الأصلية.
وأخيرًا: فيُعدُّ صاحب السمو الملكي الأمير المبجل عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز -حفظه الله ويرعاه - سياسيًّا محنكًا من الدرجة الممتازة وقائدًا إداريًّا أحب السياسة وعشق القراءة وقد اجتمعت فيه كلا الصفتين فبرز ونبغ وأثر وتأثر، فهو خبير في السياسة، التي تيمته فتخرج منها، ثمَّ هو عاشق للأعمال التاريخية السياسيَّة ولأعمال البر الخيريَّة ويتسم شخصه بالفطنة والنباهة -حفظه الله ورعاه-.