وفي ظهيرة يوم من أيام رمضان المبارك يقتحم مجرمون آثمون حرمة وطن الأمن والأمان، وطن المقدسات، وطن العزة والشرف، ويصوبون أسلحتهم عليه، حقدا وشرا وإفسادا، ويسفكون دماء طاهرة؛ قد صلت لله تعالى وصامت، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا أنفسهم بعد ذلك انتحارا لما تمكن منهم جنودنا البواسل.
في محافظة شرورة وفي منفذ الوديعة - الوادعة بإذن الله بالسلام والأمن - حاولت تلك الفئة المجرمة أن تقتحم هذا الوطن الغالي، فتعكر صفوه، وتعبث بأمنه وتسفك دم أبنائه الشرفاء.
هذا الإجرام الذي سوغ لهم قتل الأبرياء وهم صائمون، ويتموا الأطفال، ورملوا النساء، وأحرقوا قلوب الأمهات على فلذات أكبادهن، إنه إجرام تمكن من قلوب أولئك الجبناء السفهاء بسبب لوثة الأفكار الهدامة التي اعتنقوها، وبالباطل دعموها، وبمنظريهم المجرمين الخبثاء وثقوها زورا وكذبا ومينا.
إن هؤلاء المجرمين قد تخلوا عن مبادئ الرحمة والشفقة، وابتعدوا عن منهج ديننا الذي يدعو للوسطية والاعتدال في كل شيء، الذي يأمر أتباعه بأن يكونوا متراحمين مترابطين،كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ويحذر من انتهاك حرمة المسلم بماله وعرضه بل يحرم غيبته والتنقص منه، فكيف بمن سفك دمه بدم بارد، في رمضان، وهو صائم لله تعالى، يحرس مع إخوانه وطنه وشعبه!!!.
ألا ما أعظمكم يا جنودنا البواسل!! يا من ضحيتكم بدمائكم الزكية حفاظا على وطنكم وشعبكم، وتنفيذا لقسم الولاء والطاعة لهذا الوطن العزيز، واستشعارا بعظم المسؤولية التي تحملونها، فكنتم أبطالا في وجه الباطل وجنده، وكنتم رجالا أمام البغي وزبانيته، وكنتم فرسانا أمام الجبناء اللئام، فهنيئا لكم الشهادة بإذن الله وأنتم تحرسون حمى الوطن، ومقدساته، ومقدراته، من أن يمسها مجرم قد تلطخ فكره الضال بأفكار هدامة، عمادها تكفير المسلمين، وإباحة دمائهم وأعراضهم وأوطانهم.
إن هذه الفئة الضالة المجرمة قد أصبحت أداة نجسة بأيدي منظريهم وكبرائهم ممن رخصت عندهم دماء المسلمين، فأهون شيء عندهم إراقة دم مسلم، وإزهاق روحه، والتمثيل بجسده والعبث بحرمته، ولو كان لديهم ذرة علم عن حرمة المسلم، وعظيم حقه الواجب له في ديننا الإسلامي العظيم؛ لما تجرؤوا بكل وقاحة وجهل على سفك دماء إخوانهم المسلمين.
إن هذه الفئة الضالة قد تنكبت الصراط المستقيم، فعاثت فسادا وإجراما في بعض البلدان الإسلامية باسم الجهاد - الذي لا يعرف أحكامه وشروطه - أمثالهم ممن جعلوا رؤوسهم شذاذ الآفاق، ومنظري التكفير، ومريدي الفساد بأمتنا وشعوبنا وأوطاننا، فأفسدوا على الناس حياتهم، فأحالوها جحيما لا يطاق، وخوفا لا تعرف أمنا واستقرارا، بمنهج بغيض، وطريقة بعيدة عن منهج الإسلام؛ الذي دخله الناس أفواجا، بسبب ما يدعو إليه، ويطالب به أتباعه بصورة قاطعة لا تقبل التأويل:(كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).
هذه الفئة الضالة لم ترض منهج رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالحنيفية السمحة، بل هو الرحمة العامة للعالمين، وبعث متمما لمكارم الأخلاق، نابذا كل عنف، رافضا كل تشدد: (ما شاد الدين أحد إلا غلبه) محذرا أصحابه وأتباعه إلى قيام الساعة من إزهاق النفس البريئة بلا حق، وما موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام من تصرف أسامة بن زيد رضي الله عنه عندما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، إلا خير شاهد على حرمة الدماء في الإسلام: (أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «أَدْرَكْتُهُ أنا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السَّيْفَ، قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، مَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، قَالَ: «مَنْ لَكَ يَا أُسَامَةُ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ»، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ حَتَّى لَوَدِدْتُ مَا مَضَى مِنْ إِسْلامِي لَمْ يَكُنْ وَأَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا أَلا أَقْتُلَ رَجُلا يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَعْدِي يَا أُسَامَةُ ؟ قُلْتُ: بَعْدَكَ».
هذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضبه الشديد من قتل رجل واحد، ورغم اعتذار أسامة رضي الله عنه عن فعلته بالتعوذ من السلاح، ولكن كان رسول الله عليه الصلاة والسلام واضحا كل الوضوح بتحريم دماء المسلمين، فما بال من يقتل المسلمين عن قصد وترصد، وحقد وخبث، وتكفير وإرهاب، كل هذا باسم الدين، وديننا الإسلامي القويم بريء من هذه الأفعال الخبيثة؛ التي جرت إلى التنطع بالدين، والغلو فيه، وجرت إلى أفعال وجرائم يندى لها جبين الإنسانية والرأفة والرحمة، وصورت للأسف الشديد ديننا الإسلامي عند الآخرين بأنه يدعو لمثل هذه الأفعال الشنيعة، والتصرفات الطائشة.
إن مملكتنا الغالية الكريمة التي دستورها القرآن الكريم والسنة المطهرة لتأبى مثل هذه التصرفات، وترفض هذه المناهج الخبيثة، وتدعو في المحافل الدولية، والمنظمات العالمية إلى رفض العنف والإرهاب بشتى طرقه ومناهجه وأساليبه، وتدعو للتعامل مع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، والتجادل بأرقى أنواع الحوار والنقاش، بصورة محببة للنفوس، تقرب الآخر، وتميل قلبه، وتأخذ بلبه، وتشرح صدره لكل ما جاء به الإسلام من قيم وأخلاق ومثل.
إن المملكة ومنذ تأسيسها على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز لتعتز بدينها وقيمها وتعلن ذلك صراحة في كل مؤتمر ومحفل دولي وإقليمي وإسلامي، وتطبق ذلك واقعا في كل مناحي الحياة فيها، بصورة جعلتها رائدة للتضامن الإسلامي، مرجعا للأمة في شؤونها، موئلا للوسطية والاعتدال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، تدعو للتسامح والتعقل في حل القضايا والمشكلات بعيدا عن العنف والتطرف، فرفضت قتل أي إنسان بلا ذنب من أي ملة أو دين، ولإيضاح هذا المنهج المعتدل الذي تتبناه مملكتنا الغالية مما يحثنا عليه ديننا الإسلامي القويم دعا مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وفقه الله إلى مؤتمر عالمي عقد في العاصمة الحبيبة الرياض، هدفه بيان منهج هذه الدولة الكريمة تجاه ما يرمى به الإسلام العظيم من تشدد وتطرف بسبب تلك التصرفات الرعناء، وخرج المؤتمرون وقد عرفوا حقيقة هذا الدين الكريم، من خلال نصوصه الصريحة؛ التي ترفض العنف والتطرف بكل صوره وأشكاله.
ورغم ذلك ما زالت تلك الفئة الضالة تطالع العالم بصور بشعة من التطرف والإرهاب كان آخرها وما أشدها ألما على قادة هذا الوطن الكريم وعلى نفوس أبناء هذا الوطن الكريم أن تراق دماء طاهرة بريئة من جنودنا البواسل، وهم يحمون بعد مولانا الكريم الحدود والثغور تاركين أهلهم وأولادهم، في شهرعظيم مبارك، وهو صائمون، وفطرهم بإذن الله في جنات النعيم عند ربهم عز وجل مع الشهداء الكرام.
قد ارتقى جنودنا البواسل في سلم الفوز حماية للوطن والذود عن حماه، فمنهم من قضى وهو يحمل سلاحه ذائدا حاميا جناب هذا الوطن من أن يدنسه مجرم أو رعديد خبيث تمكن الشر من قلبه، والشيطان من نفسه، وأتباع الشيطان الرجيم من فؤاده، وبقي جنودنا البواسل كالجبال الراسيات ينتظرون أن تطل عليهم سحنة أولئك المجرمين البلهاء فيقوموا بواجبهم تجاه الوطن الغالي، وشعبهم الوفي الأمين.
وبعد حادثة الوديعة في الشهر المبارك امتلأت قلوب أبناء شعبنا حنقا وغضبا على أولئك المجرمين الذين أبوا إلا أن يصيبوا من الوطن بشخوص جنوده الأوفياء، فارتفعت الدعوات إلى رب الأرض والسماوات أن يتغمد جنودنا برحمته وغفرانه، وأن يجزيهم خيرا وبرا وشهادة جزاء بذلهم أرواحهم فداء للدين والوطن والحرمات والدماء، وأن يكفي هذا الوطن وشعبنا الوفي شر هذه الفئة الضالة المضلة الحاقدة المجرمة.
شكرا لمليكنا المفدى- وفقه الله- عندما احتفى بأبناء أولئك الشهداء الأبرار، ووجه سمو وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف بأن يرعى شؤونهم ويقضي حاجاتهم، ويستقبلهم في مكة المكرمة ويفطر معهم في شهر رمضان المبارك، معزيا وداعيا ومواسيا، وكان لقاء أبويا حميميا يعبر عن عمق العلاقة الكبرى التي تربط أبناء الشعب الوفي مع قادته الكرام، فكان يسألهم فردا فردا عن أحوالهم وأمورهم بعد أن قدم لهم واجب العزاء باسم المليك والوطن.
رحم الله جنودنا البواسل ممن اختارهم ربي لجواره في هذا الشهر الفضيل، وحمى وطننا الغالي من غدر الغادرين، ومكر الماكرين، وشر المتربصين، الذين يتربصون بنا الدوائر، وسدد خطى قادتنا الكرام بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، وسمو ولي ولي العهد الأمين، وتحية حب وإجلال لكل أبناء الوطن الكرام الذين أرقهم وأزعجهم هذا التعدي الآثم على حرمة الوطن، وحرمة الدماء المعصومة، وشكرا لكل من كان مع الوطن من البلاد العربية والإسلامية والعالمية معزيا ومواسيا.
ودمت سالما يا وطن السلام.