يلاقي المسلمون في هذه الأعصار في عدد من الأمصار أعتى المآسي وأدمى المجازر، فظائع دامية، وجرائم عاتية، ونوازل عاثرة، وجراحًا غائرة، غصصاً تثير كوامن الأشجان، وتبعث على الأسى والأحزان: هولٌ عاتٍ، وحقائق مرة، تسمو على التصوير والتبيين، في كل ناحية صوت منتحب، وفي كل شبر باغ ومأفون ومغتصب.
ومع أنّ قد أصبحنا في زمن لا يدري المسلم أيّ الأحداث يتابع وأيّ المآسي يعطيها الأولوية، نعم هناك جراحات في هذه الأيام تفتّت كبد الحجر قبل الإنسان، ويجد المسلم مضطرًا أن يتابعها أولاً بأول، لكن لا ننسى ولا يجوز لنا أن ننسى مصيبتنا الأولى فلسطين، والتي من أجلها ذرفت عيون، ومن أجلها شد الرجال عزائم الأبطال، وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال. إنها فلسطين، أرض القدس أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى نبينا.
في أولى القبلتين ومسرَى سيِّد الثقلين، أقرّ الله الأعيُن بفكِّ أسرِه وقربِ تحريره، حيث يسومهم جلاوِزة البغي والطّغيان دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ يسومنهم القهرَ والتدمير والقصف والتفجير وما لا يخطر ببال من التعذيبِ والتنكيل، فهل تحرِّك الأشلاءُ والدّماء وبُكاء اليتامى وصرخات الأيامى تحت أنقاض البيوت ولوعةُ الأرامِلِ في الظّلُمات وحزنُ الملتاعين في المخيّمات دعاةَ السّلام ومحاربي الإرهابِ والمدافعين عن حقوق الإنسان؟!
وإنّ ذلك الهولَ -وبعضَه يكفي- على يدِ هؤلاء الآثمين المحتلِّين الغاصبين المجرمين مدبّرٌ في تحدٍّ جهير للقرارات الدَّولية واستطالةٍ رعناء على مواثيق الشّرَف العالمية ونقضٍ غير مبرَّر للعهود والمبادرات الإنسانية.
وإذا أرادت الأمة النصر فعليها أن تأخذ بأسباب النصر وسننه للخروج من مآسي اليوم وتحقيق آمال الغد، فإن النصر لا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس.
فمن هذه السنن أن تعلم أن النصر من عند الله تعالى، كما أخبرنا مولانا حيث قال: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) سورة الأنفال، فمهما طلبنا النصر من غيره أذلنا الله وخيب سعينا، وما أحوجنا إلى أن نجأر إلى الله تعالى بما قاله الأول:
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى
عليهم وهل إلا عليك المعول؟!
ومن أسباب النصر أن ننصر الله تعالى بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا، فإن الله تعالى قال: أبها - عبدالله الهاجري يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره وإعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله، قال الله تعالى في بيان المستحقين للنصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ .
وهنا علينا أن نتذكر وفي هذه الأيام المباركة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . فبالتقوى يحقق العبد أول درجات النصر الكبرى وأسبابه، قال الله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . فإذا صبرت الأمة واتقت الله سبحانه وتعالى وقاها شر عدوها ودافع عنها، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ .
ولكن مما يجب التنبه له، والوقوف عنده أن يحذر المسلم العاقل من جعل جراح الأمة، وما يقع من حروب عليها، طريقاً للوقوع في أمور محرمة، وفتن عمياء، فيظن أنّ نصر الأمة يكون عن طريق سلوك سبيل الفرق المنحرفة، الفئة الضالة!!..
أقصد بذلك يا معاشر القراء: فتنة التكفير الخطيرة، والتي ما أن تخدم أياماً، وإلا تبدأ تُطِلّ برأسها، فينبغي بل يجب أن يتنادَى أهلُ العِلم والإيمان والفضل والصّلاح والدّين والغيرة إلى مقاومتِها والتّحذير منها. حذّر منها السّلفُ رحمهم الله، وبيّنوا خطرَها وعوارها.
إنّ مسألة تكفير المسلمِ لأخيه المسلم والمجازفةُ بالحكم على المسلم بخروجه من ملّةِ الإسلام وعدِّه مِن أهلِ الكفرِ والشّرك والقطعُ والجزم بأنّه خالد مخلّدٌ في النّار عياذًا بالله، هو سبيل الخوارج في كل وقت وحين، منذ أن خرج ذو الخويصرة على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إن مسألةُ التّكفير مِن المسائل الكبار والقضايا العِظام، لها آثارُها العظيمة، فلا يحلّ لمسلم أن يقدِم عليها إلا ببرهانٍ عنده من الله ودليلٍ هو في دلالته أوضحُ من الشّمس في رابعة النّهار.
لقد نبّه أهلُ العلم سلفًا وخلفًا إلى خطورةِ هذه المسألة وعِظم شأنِها وما يترتّب عليها من آثارٍ وتبِعات في الدّنيا وفي الآخرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «اعلم أنّ مسائل التّكفير والتّفسيق هي من مسائلِ الأسماء والأحكام التي يتعلّق بها الوعدُ والوعيد في الدّار الآخرة، ويتعلّق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمةُ وغير ذلك في دار الدّنيا، فإنّ الله سبحانه أوجَب الجنّة للمؤمنين، وحرّم الجنّة على الكافرين، وهذه الأحكام الكلّية في كلّ وقت وفي كلّ مكان».
وإن من أخطر مظاهر التكفير، والتساهل فيه أنه يورث عن صاحبه التساهل بسفك الدماء، وقتل المخالفين حتى من المسلمين، والاعتداء على الأعراض والأموال، والحرمات، وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان بشبهة التكفير، ومن ذلك ما نراه من أفعال ما عرف إعلامياً بالدولة الإسلامية في العراق والشام، من أفعال لا تمت للإسلام بصلة، والدين والشريعة منها براء، وما أقدم هؤلاء إلا بعد أن تساهلوا في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم؟!!.
ومن تلك الأفعال المشينة لأصحاب هذا الفكر التكفيري الخارجي، اعتداؤهم على رجال الأمن في هذه البلاد،
ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟!، وكيف يغفلون عن نصوص واضحات، وأحكام بينات، ويقعون في الشبهات.
إن مما يجب على المسلم علمه، واعتقاده، أن دم المسلم فالشريعةُ جاءت بحفْظِ الأمْن وحفْظِ الدِّمَاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) رواه مسلم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْـوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) أخرجه الترمذي والنسائي، وَقَـالَ: (لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي فُسْحَةٍ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا). فدم المسلم حرامٌ، وماله حرامٌ، وعرْضه حرامٌ، وقد صان الإسلامُ الدِّماءَ والأمْوَالَ والأَعْرَاضَ، ولا يجوز استحلالُها إلا فيما أحلَّه اللهُ فيه وأباحهُ، قَـالَ: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ). وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ) رواه الترمذي. وقَتْلُ المسلم بغيْر حَقٍّ من كبائر الذُّنُوبِ، والقاتلُ معرَّضٌ للوعيدِ، وقد نهى اللهُ سبْحانهُ وتعالى عن قتْلِ النَّفْسِ بغير حَقٍّ فقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِِّ.
إنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ كان معرَّضًا لأشدِّ العذابِ والعقابِ والوعيدِ قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًاِ .
ومن أجْلِ ذلك فإنَّ كُلَّ عملٍ تخْريبيٍ يسْتهدف الآمِنين مخالفٌ لأحكام شريعةِ ربِّ العالمين، والَّتِي جاءتْ بعصْمةِ دماءِ المسْلمين والمعاهَدِين.