لقد اقتضت حكمة الله في خلقه، وكان أمره مفعولا، ألا يُهلك أمة حتى يبعث في أمها رسولا، ولذلك أنزل الله كتبه، وأرسل رسله، وأيَّدهم بالبينات، وألزم الحجةَ بالمعُجزات، وكانت مُعجزات الرسل عليهم السلام أنواعا منوَّعة، وطرائق مختلفة.
وحين أراد الله عز وجل أن يتمم الهداية، ويختم الرسالة بعث محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، ولئن كان الله قد أيده بمعجزات جمَّة فانشق له القمر، وسبَّح في كفه الحصى، وحنَّ له الجذع، فإن معجزته الكبرى هي: القرآن، ذلك، أن بقية معجزاته صلى الله عليه وسلم كمعجزات الرسل الكرام الذين قبله، كل تلك المعجزات ذهبت بذهاب وقتها، أما القرآن فهو قائم مشاهد لا تنقضي عجائبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) أخرجه البخاري ومسلم.
هذا القرآن كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين، على قلب سيدنا محمد بلسان عربي مبين، مضت عليه أربعةَ عشر قرنا، وهو ما يزال غضاً طريا كأنما أنزل اليوم، لم يزده طول الزمن إلا كشفاً عن حَقه، وبياناً لصدقه. تتقدم الإنسانية، ويسمو تفكيرها، وتتنوع مخترعاتها، وتقوم الأدلة لتثبت أن هذا القرآن من عند الله الحي القيوم، لم يشارك فيه الرسول إلا بالبلاغ والبيان (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) سمعه الكفار يوم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزُلزلوا زلزالاً شديدا. أسرهم بمعانيه، وبهرهم ببلاغته ونظمه، وجعلوا يستمعون إليه خفية، ولكن ما لبث الشيطان أن ألقى على ألسنتهم بالمكيدة ألا يسمعوا لهذا القرآن، وأن يُحدثوا الجلَبَة والغوغاء حتى لا تصلَ أنواره إلى القلوب فتضيءُ جوانبُها (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)، لقد أنزل الله كتابه العظيم ليكون رحمة للبشرية تَشفى به من أسقامها وتخرجُ به من عماها، وتجدُ فيه الخير والسعادة (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، ووصفُ القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها؛ لأن البركة زيادة الخير، فالقرآن كلّه خير من جهة هداياته، ومن جهة أحكامه وألفاظه ومعانيه.
نعم، لقد حوى كتابُ الله تعالى جميعَ أسباب الهدى، وكلَّ مظاهر الحسن، ففيه جمالُ الديباجة، ورُواءُ المقاطع والمفاصل، وموافقةُ اللفظ للمعنى، وانسجامُ الأطرافِ، فلا عجب بعد ذلك ألا يَخلَقَ على كثرة التكرار، ولا تملَّه الآذان. ثم بعد هذا لقد تضمن القرآن من الهدى والإصلاح ما عاش المسلمون في ظلاله طِيلة قرون طويلة، لهم العزة والسيادة، والمَنَعة والرفعة.
نعم السميرُ كتابُ الله إن له
حلاوةً هي أحلى من جَنَى الضَّربِ
به فنون المعالي قد جُمعن فما
يَفْتَنُّ من عجبٍ إلا إلى عَجَبِ
لقد عني المسلمون بكتاب ربهم دهراً طويلا، يتفهمون معانيَه، ويستخرجون منه أحكام الحياة وطريق العبادة ونظامَ الأسرة، وطريقةَ التعاملِ البشري، والأخلاقَ والقَصص، وفنونَ السياسة في السِّلم والحرب، وفي الشدة والرخاء، وفوق كل ذلك أخذوا منه العقيدة الواضحة، والتربية الناجحة، فكتبوا آلاف المجلدات في تفسيره، ولم يأتوا على معانيه، لأن القرآن لا تنقضي عجائبه، ولا تنضَبُ أسراره، وما زال كلُّ واحد يعترف أن كتاب الله أوسعُ من أفهامهم، وأفسحُ من حدود أفكارهم. يتجدد العالَم فيجدُ في كتاب الله هداه، ويتقدم العالَم فيجدُ في كتاب الله ما يحفظ له مكاسبه، ولقد أدرك المسلمون الأولون النعمة التي تفضل الله بها عليهم بهذا الكتاب العظيم، ففرحوا به أعظم الفرح، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي يفرحون بالقرآن، ولذا جعلوا القرآن شرعةً في الحياة، ومنهاجاً مستقيماً بين السبل الكثيرة، فاستقامت لهم الدنيا فعمروها أكثر مما عمروها.
كان كتابُ الله سميراً لألسنتهم في الليل والنهار، والإقامةِ والأسفار، وكان النظر في معانيه، والاستئناسُ بهديه، والبحثُ فيه ملازماً لعقولهم وقلوبهم، ثم خَلَف من بعدِ هؤلاءِ خَلْفٌ شَغلتهم مُتع الحياة الدنيا عن مدارسة كتاب الله والعمل به، و اكتفوا منه بتلاوتِه بالألسُن، والاستشفاء به عن طريق الرُّقى والتمائم، ولو عاد المسلمون إلى كتاب الله حقا، وجعلوه منهج حياتهم، لسادوا كما ساد أسلافهم، وصاروا أسعد الناس، (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، وقال سبحانه: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن شافع مُشفَّع، وماحل مصدَّق]أي: خصم مجادل مصدق[من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار) أخرجه ابن حبان.
اللهم أحي قلوبنا بكتابك، واجعله نورا لنا في الدنيا، وحجة في الأخرى.