في الواقع المعاصر برزت بعض مسائل ربما لم تظهر في أزمنة مضت كما ظهرت الآن نظرا لتجدد الوسائل ومنها وسائل المواصلات فمنها حين ينتقل المسلم من بلد إلى بلد في شهر رمضان مع اختلاف بين البلدين في دخول الشهر أو خروجه أو أحدهما، وهذه المسألة تناولها بعض المتقدمين وبعض المعاصرين على اختلاف بينهم في حكمها.. ولمزيد من الإيضاحات حول ذلك تحدث لـ«الجزيرة» فضيلة الشيخ الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحيى أستاذ الفقه بجامعة القصيم.. وفق تأمله الشرعي وما ظهر له فيها حيث يقول:
أولاً: للمسألة صورتان: إحداهما أن يدخل عليه الشهر في بلد فينتقل إلى بلد تأخر دخول الشهر فيه فلو تم الشهر في البلد الذي انتقل إليه كان قد صام (31) يوما، وإن لم يتم الشهر عندهم فيصبح صيامه (30) يوماً.
الصورة الثانية أن يكون البلد الذي انتقل إليه قد تقدم دخول الشهر فيه على البلد الذي قدم منه فإن تم الشهر عندهم فيصبح قد صام (29) يوماً، وإن لم يتم فيصبح قد صام (28) يوماً فقط.
ثانياً: ما وضحته من الصور هو استقراء عقلي منطقي بحسب الواقع أي مع اختلاف البلدان في الوقت الحاضر في دخول الشهر وخروجه، وهي مسألة بحد ذاتها خلافية أعني توحيد دخول الشهر، وقد تناولتها في مقالات سابقة موضحاً أن عامة الفقهاء وبه صدرت قرارات المجامع الفقهية على القول بتوحيد دخول الشهر وخروجه بين البلدان الإسلامية (وتتبعها حين تتفق الأقليات الإسلامية في البلدان الأخرى) وهي أمنية عسى ألا تكون بعيدة المنال.
وهذا يفسر قلة من ذكر هذه المسألة من المتقدمين نظراً لأن القول بتوحيد الرؤية (إذا رآه أهل بلد لزم بقية البلاد) يمنع تصوّر وقوعها.
ولكن نحن أمام واقع لابد أن نتعامل معه وهو - ولله الحمد - لا يؤثر على صحة الصيام أبدا بل إنما يتبع الناس ما انتهى إليه من له الشأن في بلدهم في دخول الشهر وخروجه ولا ينبغي التشويش على الناس بغير ذلك (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) ولكن قد يكون من الخطأ العلمي اعتبار ذلك تفسيرا لقول من قال باختلاف المطالع إذ هو ليس تفسيرا صحيحاً أو دقيقاً له.
ثالثاً: ما يتعلق بمسألتنا بحسب الواقع الآن قد تأملت الحكم فيه فظهر لي أننا أمام ثلاثة نصوص شرعية هي بمثابة القواعد التي تؤثر على النظر فيه:
النص الأول: قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185).
النص الثاني: حديث ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ؛ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) متفق عليه.
النص الثالث: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون).
وهو حديث أخرجه أصحاب السنن وغيرهم بألفاظ مختلفة، فمن ذلك ما في سنن الترمذي باب ما جاء في أن الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون عن أبي هريرة، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس «.
وقد أخرجه أبو داود بأخصر منه تحت باب إذا أخطأ القوم الهلال، وكذلك ابن ماجه. وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنحو رواية الترمذي.
وأخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (4 - 156): بأطول منه: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال في هلال رمضان: (إذا رأيتموه فصوموا، ثم إذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون» وزاد ابن جريج في هذا الحديث: «وأضحاكم يوم تضحون)
كما أخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنما النحر إذا نحر الإمام، وعظم الناس، والفطر إذا أفطر الإمام، وعظم الناس)
قال الألباني في إرواء الغليل: «الحديث بمجموع طرقه صحيح إن شاء الله تعالى» انتهى.
وهو حديث - من حيث الصناعة الحديثية - لم يسلم من علة كما في علل الدارقطني إلا أن الفقهاء بل والمحدثون يحتجون به ولا سيما مع وجود الموقوف،كما في التمهيد لابن عبد البر وفتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية الذي يعظم هذا الحديث ويعتمد عليه (ولعل الله ييسر في الكتابة في هذا الحديث تخريجاً وفقهاً).
هذه النصوص التي اعتبرناها قواعد للنظر في مسألتنا يمكن تطبيقها كما يلي:
من أدرك رمضان في بلد وجب عليه أن يصوم مع الناس وفقا للنص الأول والثالث وسائر الأدلة، ولا اعتبار لكونه من بلد آخر حتى وإن سافر بُعيد دخول الشهر مباشرة، بل لو كان في الطائرة في الرياض مثلا وأذن الفجر وهو ما زال في أجواء الرياض فقد وجب عليه صيام هذا اليوم لدخوله في قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185).
فقد شهد الشهر فلو وصل بلده الهند مثلا وهم لم يصوموا فقد انعقد هذا اليوم في ذمته حتى وإن كان مفطرا لعذر السفر.
فإذا بقي في البلد الذي انتقل إليه حتى نهاية الشهر فننظر حينئذ بحسب الصورتين اللتين تقدمتا.
إما أن يكون مجموع صيامه ( 28 يوما أو 29 أو 30 أو 31 )، فأما في حال (28) يوماً: فعليه أن يأتي بيوم قضاء، لأن الشهر الشرعي لا يمكن أن ينقص عن (29) يوماً وهو الشهر القمري بخلاف الشهر الشمسي (غير المعتبر شرعاً) ودليله النص الثاني المتقدم (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ)، بل حكاه ابن رشد إجماعا، قال في بداية المجتهد (2 - 46): «فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين، وعلى أن الاعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية».
وكونه معذورا بالانتقال من بلد إلى بلد لا يسقط القضاء كغير ذلك من الأعذاركعذر الجهل مثلاً بدخول الشهر أو حتى الخطأ في دخوله كما حدث في عهد الصحابة رضي الله عنهم، كما في السنن الكبرى للبيهقي (4 - 420) حيث قال: باب الشهر يخرج في حساب الصائمين ثمانية وعشرين فيقضون يوما واحدا استدلالا بما مضى في حديث ابن عمر ثم ساق بسنده عن الوليد (وهو ابن عتبة) قال: صمنا على عهد علي رضي الله عنه ثمانية وعشرين يوما فأمرنا بقضاء يوم. وقد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4 - 156).
وفي الإنصاف للمرداوي (3 - 277): لو صاموا ثمانية وعشرين يوما، ثم رأوا هلال شوال: أفطروا قطعا، وقضوا يوما فقط، على الصحيح من المذهب، ويتوجه تخريج واحتمال. يعني أنهم يقضون يومين. انتهى.
وأما في حال (29) يوماً و(30) يوماً فقد قال الفقهاء لا قضاء عليه لأنه قد استوفى عدة رمضان « ولتكملوا العدة «، فلو انتقل من السعودية مثلاً (الدخول يوم الأحد) إلى تركيا (الدخول يوم السبت) وصام أهل تركيا (30) يوماً فهو لم يصم سوى (29) يوماً ومع ذلك لا نلزمه بالقضاء لعدم الدليل الملزم له (صام مع الناس) وفعل ما يجب عليه عند خروجه (أفطر مع الناس) وتم في حقه (29) يوماً، والنبي- صلى الله عليه وسلم- قد قرر أن الشهر قد يكون (29) يوماً وهو ينطبق في حق الجماعة وحق الفرد فلا دليل على إلزامه بيوم ليكمل (30) يوماً كأصحابه مثلا في تركيا (وفي المسألة قول ضعيف بأنه يصوم يوماكما تقدم في الإنصاف).
بقيت الحالة الأخيرة وهي موضع الإشكال حين ينتقل إلى بلد تأخر دخول الشهر فيه كما لو انتقل من السعودية ( الدخول يوم الأحد رمضان 1435) إلى الهند (الدخول يوم الاثنين) وبقي عندهم الشهر حتى أكملوا (30) يوماً فإن صاحبنا سيكون قد صام (31) يوما فقال البعض: هل يلزمه صيام يوم (31)؟ وكيف يمكن أن يصوم (31) يوماً؟!
فنقول: هذه مسألة للفقهاء المتقدمين والمعاصرين فيها قولان: أحدهما يلزمه الصوم ،والآخر لا يلزمه الصوم (كما سيأتي في عرض ما جاء عن الفقهاء).
ومن قال يفطر فإنما يفطر سراً مراعاة لحرمة الشهر، وهو قول معتبر وله حظ من النظر، وقد قال به بعض الفقهاء في هذه المسألة وفي مسائل أخرى كمن رأى هلال شوال وحده وردت شهادته.
ولكني بعد تأمل المسألة بدا لي - والله أعلم-: وفقاً للنصوص السابقة أننا حين ننظر للشخص في المثال السابق أنه قد شهد الشهر في السعودية فوجب عليه الصيام ثم حين أتم (30) يوماً في الهند لا نجد له رخصة في الفطر للنص الثالث وهو قاعدة عظيمة « فطركم يوم تفطرون « فلا يصح أن يشذ عن الناس بفطر (ومثله من دخل عليه الشهر في تركيا وأدرك العيد في السعودية ونحوها من الأمثلة).
بقي الإشكال مع النص الثاني (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ) لذا قال بعضهم: يفطر سراً لأننا لا يمكن أن نلزمه بصيام (31) يوماً كلها رمضان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حدد احتمالين اثنين لا ثالث لهما (29) أو (30)، وكما أنكم ألزمتموه بصيام يوم لو صار مجموع صيامه (28) يوماً لهذا الحديث فكذلك لا تلزموه بصيام (31) لهذا الحديث أيضاً.
وهذا إيراد وجيه في نظري، ولكن الإذن بالفطر له سراً في هذه الحال مشكل فقوله « فطركم يوم تفطرون « وحالته مع سائر الناس أنه في رمضان وهو لو أفطر فهو أفطر يوماً من رمضان كل ذلك يمنعنا من القول بفطره...
لذا كله فإما أن نقول له صم وأنت مأجور بذلك ورمضان في حقك (31) يوماً هو استثناء لا يؤثر على أصل القاعدة إذ حالتك حالة استثنائية فردية لا يمكن أن تكون لأهل بلد.
وإما أن يقال له: لابد من الصيام حتى وإن اعتبرنا اليوم الزائد ليس من رمضان (للحديث) ولكنه لازم صومه للنصوص الأخرى فيكون في حقك (30) من رمضان ويوم لك أجر النفل.
فإن قيل: وهل النفل لازم؟ قلنا: نعم قد يلزم النفل أحيانا كما في لزوم الحج والعمرة النافلة بعد الشروع فيهما، وكما تلزم الصلاة من دخل المسجد وإن كان قد صلى الفريضة، وثم صوم أيضا فيها إلزام بالصيام عند كثير من العلماء مع أنه لا يحسب من رمضان كما لو طهرت الحائض في نهار رمضان فإن طوائف من الفقهاء يرون عليها الإمساك والقضاء وكذا المسافر المفطر حين يقدم في نهار رمضان يمسك ويقضي وكل ذلك دال على أن إلزام المنتقل من بلد إلى آخر بصيام (31) يوماً في بعض الحالات لا يؤثر على أصل القاعدة. والله أعلم.
أخيراً فدونك بعض أقوال الفقهاء (لاطلاع المتخصصين، وفيها نموذج لما فرضه الفقهاء فوقع الآن وهو الانتقال بالطائرة):
في كتاب المجموع للنووي (6 - 274): لو شرع في الصوم في بلد ثم سافر إلى بلد بعيد لم يروا فيه الهلال حين رآه أهل البلد الأول فاستكمل ثلاثين من حين صام (فإن قلنا) لكل بلد حكم نفسه فوجهان (أصحهما) يلزمه الصوم معهم لأنه صار منهم، (والثاني) يفطر لأنه التزم حكم الأول.
(وإن قلنا) تعم الرؤية كل البلاد لزم أهل البلد الثاني موافقته في الفطر إن ثبت عندهم رؤية البلد الأول بقوله أو بغيره وعليهم قضاء اليوم الأول وإن لم يثبت عندهم لزمه هو الفطر كما لو رأى هلال شوال وحده ويفطر سراً.
ولو سافر من بلد لم يروا فيه إلي بلد رؤى فيه فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه فإن عممنا الحكم أو قلنا له حكم البلد الثاني عيد معهم ولزمه قضاء يوم وإن لم نعمم الحكم وقلنا له حكم البلد الأول لزمه الصوم.
ولو رأى الهلال في بلد وأصبح معيدا معهم فسارت به سفينة إلى بلد في حد البعد فصادف أهلها صائمين يلزمه إمساك بقية يومه إذا قلنا لكل بلد حكم نفسه.
ولو كان عكسه بأن أصبح صائما فسارت به سفينة إلى قوم معيدين فإن عممنا الحكم أو قلنا حكم المنتقل إليه أفطر وإلا فلا وإذا افطر قضى بوما إذا لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما. انتهى مختصراً.
وفي كتاب الإنصاف للمرداوي (3 - 273): لو سافر من بلد لرؤية ليلة الجمعة إلى بلد لرؤية ليلة السبت فبعد (أي بلداً بعيداً) ،وتم شهره ولم يروا الهلال: صام معهم، وعلى المذهب: يفطر، فإن شهد به وقبل قوله أفطروا معه على المذهب، وإن سافر إلى بلد لرؤية ليلة الجمعة من بلد لرؤية ليلة السبت: أفطر معهم وقضى يوما على المذهب، ولم يفطر على الثاني، ولو عيّد ببلد بمقتضى الرؤية ليلة الجمعة في أوله، وسافرت سفينة أو غيرها سريعا في يومه إلى بلد الرؤية ليلة السبت: أمسك معهم بقية يومه لا على المذهب.
وفي الإنصاف (3 - 277):ومن رأى هلال رمضان وحده، وردت شهادته: لزمه الصوم وهذا الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب، ونقل حنبل (أي عن الإمام أحمد ): لا يلزمه الصوم، واختاره الشيخ تقي الدين. فعلى الأولى: هل يفطر يوم الثلاثين من صيام الناس؛ لأنه قد أكمل العدة في حقه أم لا يفطر؟ فيه وجهان، وقواعد الشيخ تقي الدين: أنه لا يفطر إلا مع الناس.
(وإن رأى هلال شوال وحده: لم يفطر).
هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقال في الرعاية الكبرى: وعنه يفطر، وقيل: سرا. قال المجد: لا يجوز إظهار الفطر إجماعا. انتهى مختصراً.