في صغري وقبل أن التحق بالمدرسة كان يبهرني (بريقع) بزيه الجميل (ثوب ملون يزينه كبك يلمع) وخلف ظهره حقيبة زاهية وفي كتفه زمزمية ومكتب صغير كان وهو عائد من مدرسة الجوه متجهاً نحو مقاطعة الحني كان واثق الخطوة يمشي ملكاً. أشبه بفنان مسرحي عظيم يذرع خشبة المسرح بخيلاء يومها كان (الحني) مشتل زراعي كبير قبل أن يتحول (قاعاً صفصفاً) لا صوت فيه اليوم سوى صفير الريح الموحش
على امتداد الحني تقع (مزارع الأهالي التي يسمونها البلاد والواحد منها ركيب) حيث به حوزة كاملة من (البلاد) - في أوقات الخير ينتقل الناس ليقيموا في مبانٍ متواضعة من الحجر أعدوها على عجل تنتشر فوق مساحة تشبه الهضبة لتشكل حياً مؤقتاً أو معسكراً مؤقتاً من الحجر. تلك المنازل التي تبقى منها بعضها تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد هي المأوى المؤقت لمجموعة من الفلاحين الكادحين ليكونوا بالقرب من مزارعهم التي تفيض زروعها بالسنابل الملأى بمختلف أنواع الحبوب حيث (الخير الوفير ينضح من تلك السنابل البيضاء) التي تتنوع بين البيضاء والمقتصرة والدخن أما الدقسة والسيالة فقد كانت أحاديث ترد على ألسنة الناس الذين يصفون شكل الدقسة والسيالة والحمرية والشعير بعد أن تغيرت أذواقهم وعاداتهم الغذائية فهجروا الدقسة والسيالة واستبدلوها بالحبوب المذكورة أعلاه أنا ووالدتي وأخي الأكبر أحمد هناك لحماية (ركيب الحني) مزرعتنا الصغيرة وعلى امتدادها حبال تشبه شبكة التربيع في الرياضيات تتدلى من تلك الحبال أشكال بالية وبعض العلب المعبأة بالأحجار وخرق متنوعة الأشكال وجميع الحبال مربوطة ببعضها تنتهي بجزء من الحبل داخل عشة تقوم على أربعة أعمدة صلبة من خشب السدر مكونة من دورين ولأني وأمي (حُماة الزرع ) فإننا لا نكف عن إطلاق سيمفونية (صررررر) نتبعها بـ(اشششوه) مع هز الحبال بعنف لإخافة أسراب الطيور المتنوعة التي تشن هجماتها المتلاحقة وتمارس غاراتها بإعداد مهولة على سنابل الأمل التي ترقبها أمي وتنتظر موسم صرامها بمنتهى الصبر والأمل، عند إصدار صيحة (صرررررراشششوه) وهز الحبل من طرفه مما يليني تهتز الحبال في أرجاء المزرعة ومعها تتحرك الأكياس والخرق والعلبة المملوءة بالأحجار فتصدر حركة وأصواتاً تخيف الفريق المهاجم وتسهم في التخفيف من أثر غاراته فأشعر بالزهو لأني نجحت في الدفاع عن محصولنا (أمي تقبلني) كجندي انتصر في معركة (بريقع) يجوب فضاءات الحني مردداً بعض الآيات والأناشيد والأهازيج تتنوع ألحان وترانيم وقراءات بريقع بين (قل هو الله أحد) و(إذا جاء نصر الله والفتح) إلى (قد كان عندي بلبل... حلو طويل الذنب) (وبلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان) عندما كانت العروبة وفلسطين والشام هماً جمعياً وقبل أن تختفي من مناهجنا الحديثة حتى قبل أن ألحق بالدراسة بصوت شجي واستعراض ظاهر لا يكف عن رفع عقيرته ولا يمل من معاقرة طقس العودة من المدسة ميمماً نحو والدته أمي وفاطمة بنت حدية ترتديان قطعاً وملابس لم نعد نعرفها ولحقت تلك الأزياء بأنشودة من الشام لبغدان حيث اختفت الصديري والفوطة وسروال أبو قلم المخطط وصك الدكان والحقني والحنكشة وعطر أبو طير والمدرعة تبعاً لتغير أذواق الناس في اللبس وبسبب هجوم خيوط الموضة وغاراتها التي لا تختلف كثيراً عن غارات (الرجاف) على (سنابل المقتصرة) الفرق الوحيد أن غارات (الرجاف والقرع وأم سعيد) كانت تجد من يتصدى لها من الجنود البواسل أمثالي أما غارات البدائل الحضارية فكانت تفسح أمامها كل الطرقات (بريقع) لا يزال يردد أناشيد منوعة كل يوم يشنف أسماعي وكل قاطني الحني ينداح بعذوبة مردداً: (كرتي كرتي ما أحلاها) ويطلق في الفضاء آآهات عريضة تشبه آهات السيدة وهي تترنم بـ( الحب كله حبيته فيك الحب كله) إلى (المديدح) اسم ركيبهم يتوجه من طريق يقع خلفي يومياً هذا البر يقع ليتحفني بجديد لم أسمع به وعلى طريقة ذلك الخليفة الذي أجبر الأصمعي على أن يأتي بـ(صوت صفير البلبل) كنت أجدني استطيع حفظ كل ما يقوله بريقع من الوهلة الأولى لحظة مرور (بريقع) جميلة كان يفسدها (أبو سعيد) مطر بن حمدان يرحمه الله أو أبو علي (سعيد يحيى) أطال الله في عمره أو أبو أحمد (سعيد بن غصاب) الذين يصيحون به أحياناً (اذيتانا ياسلعة) فيخبو صوت بريقع ولأن الدكتاتورية هرمية فإن (بريقع) كان لا يستجيب لتوسلاتي بأن يتوقف لاحظى بشرف استضافته في عشتنا فوق (عراق ركيبنا) وبالمناسبة (العراق هنا ليس عراق الحضارات الجريح المتشرذم بعد حامي القادسية) بل هو جدار (ركيب الحني) المزرعة التي أطعمتنا ردحاً ثم تنكرت وإخواني ووالدتي لها حتى أنها لو امتلك لساناً لهجتنا لأننا في نظرها (ناكرو جميل) فلم تعد تشكل لنا أدنى اهتمام بل إننا لم نعد نزورها ونتفقد حالها كان في ذلك الزمن يرافق بريقع صنوه (علي السلال) الذي كان فتحاً عظيماً لطفل في سني فقد شاهدت معه بدهشة في ليلة رمضانية غابرة (كراس الرسم للمرة الأولى ودفتر ابو عشرين وكتب الدراسة ومعه شممت رائحة الألوان الشمعية) بل ذهب لأبعد من ذلك فرسم لي (خروف صغير) سماه (الجدي) أو (الحمل) لم أعد أذكر رغم أني أعرف أن للحيوان الذي رسمه اسماً آخر ألا أني لم أجرؤ على السؤال وعلى العموم كان السلال أرق قلباً من بريقع معي فقد نحت لي مرة جملاً في غاية الجمال من نوع من الأحجار (بريقع الصوت الجميل) لم تستطع (المدرسة ابية) استيعاب موهبته الجميلة في الإنشاد لأنها لا تؤمن بالفنون وتحرمها وتجرمها فتسرب منها ولحق به الفنان (علي السلال) الذي طرق أبواب النحت والفن التشكيلي والشعر وعزف العود ثم تركها كلها ولم تعلم بكل تلك المواهب مدارسهم أجزم أنهم كغيرهم منا أجبروا مواهبهم على أن تغادرهم لأن هذا ما تعلمناه في المدرسة، المطر الغزير والسيل العرمرم والعواصف العاتية التي هبت على الحني في ليلة ليلاء ذهبت (بعشتنا) التي كانت نافذة جميلة أصافح منها صوت بريقع وخطوط وألوان السلال بسقوط العشة غادرنا الحني ومنذ ذلك الحين لم اسمع المنشد (بريقع) يغني واختفى النحات (علي)، حتى بعد أن بحثت عن بقايا لتلك المواهب في دواخلهم لم أجد في جدران أرواحهم سوى بقايا ذكريات حزينة.