النهار فى شهر رمضان المبارك يمنح الصائم فرصة أطول لقراءة القرآن وتأمل ما يرد في آياته البليغة من معاني وحِكَم وعظات. توحي بعض التأملات - على الرغم منّا- بإسقاطات على الواقع الدنيوي المحيط بنا، تنير جوانبه. فعندما قرأت الآية الكريمة
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) سورة إبراهيم - تذكرت من فوري حالة دنيوية لا ننفك نتداولها في أحاديثنا، كلما هبّت على وطننا العربي - من الداخل - عواصف الشر. ذلك أننا نفسر ما يحدث بنظرية المؤامرة، ونلقي اللوم على فاعل متآمر علينا - من الخارج - ونبعد الملامة عن أنفسنا. هل هذه النظرية صالحة لتفسير ما يجري في سوريا والعراق؟ إن ما يجري هو حرب داخلية يشنها النظام الحاكم في كلٍّ منهما على قطاعات عريضة من شعبه تشعر بالظلم والحرمان. في سوريا يمارس النظام الحاكم ورئيسه حرب إبادة ضد شعبه، يستخدم فيها أشد الأسلحة فتكاً. ومما يلفت النظر أن النظام تخلّى تقريباً عن المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا وتركها للمعارضين الأكراد ولتنظيم داعش وجبهة النصرة، على الرغم من وجود أكبر حقل للنفط السوري في منطقة دير الزور. واستعان النظام بميليشيات من حزب الله ومن العراق ومن إيران في مناطق أخرى غيرها. وبالفعل تمكن تنظيم داعش من بسط نفوذه على دير الزور والرقه. ومما يلفت النظر أيضا أن دولاً من مجموعة أصدقاء سوريا التي تعهدت بدعم الجيش الحر - وهي بالذات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا - تحفظت على إمداده بالأسلحة النوعية والعتاد الكافي، ليواجه الأسلحة الحديثة الفتاكة لقوات النظام الجوية والبرية وميليشياته، وذلك تحت ذريعة أن لا تقع في أيدي المتطرفين. بل نُقِل عن الرئيس أوباما قوله إنه لا جدوى من تسليح الجيش الحر لأنه لن يحقق انتصاراً، وذكرت صحيفة بريطانية أن حكومة كاميرون تخلت عن خطة مقترحة لتدريب مائة ألف سوري يمكن أن يحاربوا تحت لواء الجيش الحر. وهكذا يخلو الجو لنظام حكم طائفي شرس وتنظيم تكفيري متطرف يماثله في شراسته، ويعمل على فصل محافظات دير الزور والرقه عن الوطن السوري. أما في العراق فقد كانت محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين مَُمَهدة لسيطرة داعش بدون حاجة لدعم مرتزقة متطرفين من أقطار عربية وغير عربية، وذلك بفضل عاملين رئيسيين هما وجودمئات الآلاف الناقمين من ضحايا اجتثاث البعث وحلّ الجيش العراقي إثر الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003 ومن فلول النظام الحاكم قبل الغزو، والعامل الآخر هو السياسة العدائية التي دأب عليها نوري المالكي طيلة ثماني سنوات تجاه المكوّن السنّي العربي في العراق من إقصاء وتهجير واعتقالات وإهمال لمطالب سكان المناطق السنية ووصاية على إدارتها بالقوة البوليسية والابتزاز، ومواجهة ما تقوم به العشائر من احتجاجات واعتصامات بالحصار واستعمال القوة العسكرية. لم يواجه الزحف (الداعشي) مقاومة تذكر لا من النظام الحاكم في سوريا الذي انشغل بإبادة شعبه ولا من النظام الحاكم في العراق الذي انشغل بحماية عاصمة حكمه في بغداد وما حولها ولا من إيران حليفة كلا النظامين ولا من الدول الغربية التي أعطت الأولوية لحماية نفسها من عودة أبنائها المقاتلين مع داعش، ولا من إقليم كردستان الذي سارع بالسيطرة على كركوك، وانتهز هذه الفرصة العظمى التي أتاحها غزو داعش لإعلان النية في الترتيب لانفصال كردستان. ذلك كلُّه مكَّن زعيم داعش (العراقي أبو بكر البغدادي) من إعلان المناطق التي يسيطر عليها في شرق سوريا وفي غرب العراق دولة إسلامية واحدة وإعلان نفسه خليفة عليها. هذا الواقع المحزن يرسم لنا صورة مشروعي انفصال وتقسيم في وطننا العربي. هل نبحث بعد الحزن والعويل عن متآمر فعل هذا ببلادنا في العراق والشام، فنلقي اللوم عليه ونفرّج عن أنفسنا؟ سنجد -على الأرجح- من يناسبهم هذا الوضع لأنه يخدم مصالحهم، وربما يقول لسان حال هؤلاء: لم آمر به ولم يسؤني. فالعرب لا يزالون يذكرون بسوء اتفاقية (سايكس-بيكو) التي قسمت العراق والشام بين بريطانيا وفرنسا. لكن هذه كانت مؤامرة صريحة، تم تدبيرها ضد بلاد مستعمرة. أما سوريا والعراق اليوم فليست بلاداً مستعمرة، بل هي بلدان مستقلة تسلّط عليها حكام طغاة من أبنائها استهانوا بشعوبهم وسخّروا نظام الحكم لخدمة مصالحهم الشخصية وانتماءاتهم الطائفية والحزبية على حساب وطنهم، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيمه. هل كانوا مدفوعين لذلك بفعل قوى خارجية (متآمرة)؟ أم أنهم سعوا إلى حلفاء ليساندوهم في تثبيت حكمهم فغرًّروا بهم ؟ أم وقعوا في حبائل سياستهم الرعناء وحساباتهم الخاطئة ومآربهم الدنيئة مما أوصلهم إلى هذا الواقع المأساوي؟ كل ذلك ممكن، لأن الأطراف التي قد ترضى عن التقسيم متعددة لأسباب مختلفة. في أعقاب غزو العراق عام003 تعالت الصيحات في الولايات المتحده بالدعوة إلى (شرق أوسط جديد) وإلى تمجيد الفوضى الخلاقة، ودعت بعض أوساط الكونجرس ومراكز البحوث إلى إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط. وأيضاً فإن من مصلحة إسرائيل إضعاف سوريا والعراق بتقسيم دولتيهما. أما إيران فيناسبها انفصال أقاليم سنّية عن العراق وسوريا لأن هذا يعزز المدّ الطائفي الذي تسخّره إيران لخدمة أحلامها الإمبراطورية. لكن المؤكد أن أداة الفعل المنفّذة لما يحدث في العراق وسوريا هم حكامها، وهم الذين عبّدوا طريق الانفصال أمام إقليم كردستان وتنظيم داعش. ولو عدنا لأحداث الانفصال والتقسيم في الصومال والسودان وغزة وما طالب به الحراك الجنوبي من انفصال عن اليمن الشمالي لوجدنا دائماً أن حكام تلك البلدان هم الفاعل المباشر فى إثارة الحركات الانفصالية بأسلوب حكمهم المبنيّ على دكتاتورية التفرد بالحكم والتمييز الطائفي أو القبلي أو الإيديولوجي أو المصلحي، والمستند إلى قوة الجيش أو الحزب أو مصلحة مشتركة مع حليف خارجي. يبقى إذن (للمتآمر الخارجي)- إن وجد- الإيحاء بالأفكار التي تخدم توجهاته، أو المساعدة في توفير الظروف الممهّدة لخلق وضع جديد، أو استغلال الوضع الناشئ لمصلحته إما بالدعم أو بالنصح، وهو في كل الأحوال يجد من يسمع له، والحكام من جهتهم يجدون من يطيعهم ويصدّق ادعاءاتهم من أفراد قبائلهم أو أحزابهم أو طوائفهم الذي نُشِّئوا على أن يحكّموا عواطفهم وانتماءاتهم وليس عقولهم فيما يختارون.
كان المفكر الجزائري مالك بن نبي يقول إن المستعمر الأجنبي بذر فى مجتمعاتنا صفة القابلية للاستعمار، وحيث لا يوجد المستعمر الآن، فقد حلّت محله في بعض البلدان أنظمة حكم تبذر في مجتمعات بلادها القابلية للاستغفال.