قال لي ألا تشعر وأنت تقرأ الصحف صباحاً أن أخبارها سبق لك أن قرأتها.. قلت له بل هذه حقيقة وليست مجرد شعور لأن الأخبار لم تعد تنتظر الصباح حتى يطلع عليها الناس فقبل هدير المطابع هناك هدير من نوع آخر لا يكاد يتوقف عن بث الأخبار ساعة وقوع الحدث، بدءًا بالقنوات الإخبارية الفضائية وانتهاءً بتويتر والفيسبوك والصحف الإلكترونية ورسائل الجوال والواتساب والإنستقرام والكيك واليوتيوب ولا ندري بماذا ستفاجئنا به التقنية الحديثة من مستجدات الابتكارات..
إذن ماذا بقى في الصحف ليِقُرأ؟
لم يبقَ لنا سوى ما سيجود به كُتاب الرأي من آراء في الشأن العام والشأن السياسي والعالمي وكذلك ما يجود به الصحفيون من تحقيقات وتقارير وإبداعات رسامي الكاريكاتير من وخزات ولدغات تلامس هموم الناس ويبقى الأجمل والأروع باقة الإعلانات التي ستتحفنا بها الصحف كل صباح.
أما أن ننتظر سبقاً صحفياً أو خبراً تنفرد به إحدى الصحف فذلك زمان ولى ومضى ولن يعود، لذا أرى أن على القائمين على الصحافة إعادة حساباتهم من جديد والاهتمام بالرأي والتحليل والاستطلاع والتحقيق والكاريكاتير وكأني أرى صحافة زمان التي تهتم بالرأي والكتابات الإبداعية في عهد صحافة الأفراد تعود من جديد للواجهة قبل أن يأتي عهد نودع فيه الصحافة الورقية ونكتفي بالصحافة الإلكترونية.
وقد كنت أتحدث عن هموم الصحافة ومستقبلها مع أحد رؤساء التحرير الذي طرح علي سؤالاً مباغتاً حينما قال لي: بعد كم سنة تتوقع أن تختفي الصحافة الورقية تماما من عالمنا؟ فقلت له: أتوقع بعد 25 سنة. فاندهش من كلامي وقالي لي: لا يا صاحبي لن يطول عمر الصحافة الورقية أكثر من خمس سنوات والأيام بيننا إذا أمد الله في أعمارنا.
فقلت له: لماذا تبدو مستعجلاً على حتفكم بخمس سنوات ستمضي كلمح البصر.. فقال: أنا أقرب منك من هذا العالم وألمس حاضره وأستشعر مستقبله ففي بعض الدول المتقدمة أغلقت صحف وتحولت أخرى إلى إلكترونية ونحن العرب دائماً نأتي كالعادة في مؤخرة الركب..
فهل سنرى سياسيات جديدة للصحافة الورقية قبل أن تلفظ أنفاسها وتحافظ على ما تبقى من قراء يستنشقون رائحة حبرها قبل معانقة حروفها؟ ولعل دور النشر كانت أول ضحايا المد التقني بعد أن أصبح (فلاش ميموري) صغير تضعه في جيبك يحتوي على مكتبة بها (250) ألف كتاب مجلد فكم توفر من مال ومكان كانت ستوضع فيه تلك الكتب... وهذا ما دفع العديد من دور النشر إلى إغلاق أبوابها وبيع كتبها كرجيع لتجار الورق التالف الذين يعيدون تصنيعه من جديد كأطباق للبيض وغيرها من المنتجات.
وقد يقول قائل ألم يتوقع الناشرون هذه النتيجة الحتمية التي سيؤول لها الكتاب الورقي.. فأقول له بلى ولكن السرعة التي تتطور فيها التقنية الرقمية لم تترك لأحد فرصته للتفكير واتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب فنحن في زمن المائة وأربعين حرفاً
(التويترية) وليس المائة وأربعون ورقة التي تعودنا عليها وعلى أكثر منها عدداً.
لقد أصبحنا في زمن نستطيع أن نستدعي المعلومة التي نحتاج إليها في زمن مقداره جزء من الثانية، وكل ما نحتاج إليه هو جهاز صغير في جيبك ولم نعد نحتاج إلى المكتبة بأكملها فما بالك بنسخة من كتاب!
يا له من زمن عجيب! ورغم هذا التطور المذهل في قنوات إيصال الثقافة والمعلومة إلا أننا نلمس ضحالة في ثقافة وفكر جيل التقنية الحديثة لأنها حولتهم إلى كسالى لا يبذلون جهداً في البحث واستقاء المعلومة من المصادر الأصيلة..
وعوداً لذي بدء لا بد أن نرى صحافة ورقية جديدة أكثر قرباً من قرائها تتطور بالسرعة المذهلة التي تتطور بها الوسائل الرقمية والإلكترونية حتى تمد في عمرها قليلاً قبل أن تتحقق نبوءة صاحبي بأن العمر الافتراضي للصحافة الورقية لن يتجاوز خمس سنوات.