من المناظر السيئة التي أتذكرها منظر أمٍّ تصرخ على ابنها وتضربه بعنف، وقد سمعتُ عن أشد من ذلك مما تفعله بعض الأمهات، وغالباً هذه الأم نفسها تعرّضت لمواقف عنيفة وقاسية في طفولتها شكّلت نظرتها للحياة وجعلتها بهذه الغلظة، وقد تبرر لنفسها فعلها بابنها أنها تفعل به خيراً، ظانة أنها – مثلاً – تعلّمه الرجولة والقوة، وليتها تَعْلم أنّ فعلها لن يأتي إلاّ بنتائج عكسية، فمن المعدوم أن نرى طفلاً يتعرّض للإيذاء النفسي والجسدي ويتحوّل إلى شخصٍ سويٍّ، بل دائماً تقريباً سينظر هذا الشخص نظرة سلبية للحياة والناس، ولن يعرف أن يتعامل مع المشاكل إلا بالصراخ و العنف، لأنّ هذا ما تعوّد عليه، وسينتقل هذا الأسلوب العقيم إلى أبنائه، فيضربهم بشدة ويصرخ عليهم في أي فرصة، ظاناً أنّ هذا هو الأسلوب الصحيح في التربية، بما أنّ والده ووالدته فعلا به ذلك، وهاهو رجل كبير لا يعاني أي مشاكل (كما يتوّهم)!
وإنما أخصُّ الوالدة بالذات في هذا الموضوع بسبب ما أتى به بعض علماء النفس في كتاب «نظرية عامة في الحب»، وأتى فيه أنّ الطبيبة النفسية المتخصصة في النمو والتربية ماري اينزوورث، صنعت تجربة قالت إنها أثبت صحة الفكرة الشائعة في علم النفس، أنّ ما تفعله الأم مع ابنها في الصغر يؤثر عليه بشدة في الكبَر (سواءً سلبياً أو إيجابياً)، ودَرَسَتْ حالات الكثير من الأطفال وراقَبَتهم منذ صغرهم إلى أن كبروا، ومن نتائج الدراسة أنّ الأم التي رَعت ابنها نفسياً وعاطفياً أنتجت ولداً أكثر ثقة واستقراراً ونجاحاً وسعادة ولطفاً وعزماً وصبراً وكفاءة وحياة اجتماعية، بينما الأم التي فيها قسوة وكراهية وبرود وعدم استجابة لبكاء الطفل ومشاعره، أنتجت رجالاً منعزلين مرتابين كتومين أصحاب غلظة وقلوب قاسية استمتعوا باضطهاد غيرهم. أما القسم الأخير فهو الأم التي تنشغل كثيراً عن ولدها وتتصرف معه بتناقض بين اللطف والتجاهل، فهذه لما كَبُر أولادها صاروا مترددين فاشلين اجتماعياً شديدي الخجل معدومي الثقة.
يقول علماء النفس هؤلاء إنّ هذه التجربة والكثير غيرها أظهرت أن ما تفعله الأم مع ابنها بالغ الأهمية وسيبقى معه بقية عمره ويشكّل شخصيته وحياته. لكن لا تُظهر التجربة أنّ الأم يجب أن تجلس كثيراً مع طفلها، فكمية الوقت لم يَظهر لها رابط، وإنما الكيف هو الذي يهم وليس الكم، فالأم التي حملت وضمت طفلها عندما بكى ووضعته أرضاً عندما هدأ ، وأطعمته إذا جاع وأنامته لما شبع، هي التي دفعت ولدها نحو تلك الحياة الإيجابية المذكورة.
من بين الوالدَين فالأم هي الأولى أن تكون أرقَّ وألطف خاصة بحكم أنوثتها، فإذا كان العكس وصارت هي الأغلظ والأقسى فهذه مشكلة، وأول من سيعاني من المشكلة هو الولد.