نهض فكر «دولة الخلافة الإسلامية» الموهومة التي تتشكل الآن كحلم دموي طوباوي باذخ على أجزاء من أرض العراق والشام على مبدأ «الكفر والردة» والمعنى أن من يخالف قوانين وتعاليم الدولة ويقاومها فهو كافر وينطبق هذا الوصف على جميع حكام الدول العربية والإسلامية وعلمائها وأصحاب القرار فيها، أما المستضعفون من العوام وسواد الناس والموظفين المجبرين على العمل فهم مرتدون يستتابون، فإن تابوا وأذعنوا وأعلنوا البيعة لخليفة المسلمين الجديد عبدالله بن إبراهيم السامرائي الملقب بـ»الكرار» أو بأبي بكر البغدادي وإلا فإنهم فالقو رأسه بالرصاص، كما قال نص بيان إعلان قيام الخلافة الذي ألقاه أبو محمد العدناني الشامي!
والحكم بكفر أبناء الملة لا يتعارض مع رؤية دولة الخلافة وفكرها القاعدي كفر دول الغرب والشرق، فأولئك كفار بالفطرة سواء كانوا نصارى أو يهوداً أو بوذيين وغيرهم، ويجب إعلان الحرب على كل كافر في هذا العالم حسب مفهوم الخلافة الجديد؛ ولكن دولة الخلافة المزعومة تريثت قليلاً وابتدأت الحرب على الكفار والمرتدين الأقربين أبناء الجلدة الواحدة قبل الكفار الغرباء الأبعدين، ولهذا اشتغل السيف بقطع الرؤوس، وانهمر الرصاص يقطع أجساد 1700 شاب عراقي من طلبة كلية الشرطة في أكبر مجزرة من المجازر البشرية في التاريخ الإسلامي، وارتفعت منصات المشانق، وعلقت الأجساد البريئة ومثل بها، وتفاخر الخوارج الجد بالتنافس في من يجز أكبر عدد من رؤوس المخالفين سواء من الطوائف أو الديانات الأخرى كالشيعة والنصارى والصابئة واليزيديين وغيرهم أو ممن رفض البيعة لأمير المؤمنين الذي أصبح بين ليلة وضحاها خليفة المسلمين بإجماع المؤمنين الوحيدين على وجه هذه الأرض وهم الداعشيون فقط!
تطور فكر القاعدة وتحلل من كثير من تحفظاته القديمة في عهد منشئه الأول ومنظره ورافع وصائغ خطابه الفكري وبياناته الأولى رايته أسامة بن لادن ثم أيمن الظواهري؛ ليتصاعد وليدخل مرحلة جديدة من مراحل رفض الواقع العربي والإسلامي وإعلان العداء المطلق مع العالم بدون تحفظ؛ فأصبح الجميع هدفاً مشروعاً لهذه العصابة التي أطلقت على نفسها دولة ومنحت زعيمها لقب «خليفة» متوسلة بالدين ورافعة دعاوى نصرته وداعية إلى إعادة مجده، وهي تهدم أسس الدين وتقوض قيمه وتشوهه وتكره الناس فيه بما تقترفه من جرائم وما تستهين به من إراقة الدماء المعصومة وما تثيره من ذعر وتشريد وتخريب، ولا يصدق عاقل مطلع منصف وغير متحامل أن قيم الدين السمحة يمكن أن توصي أو تحض على إراقة قطرة دم بريء أو ارتكاب أفعال التسلط والتعذيب والحرق بالنار أو القتل على الهوية الطائفية، لقد ألغى الخوارج الجد كما فعل أسلافهم من قبل متوسلين بالدين كذباً وزوراً مفهوم الحلال والحرام في الإسلام؛ فلم يعد ثمة فاصل أو موانع بين ما يجوز وما لا يجوز وما يحل وما يحرم، فقد دفع الهوس النفسي وأنتجت مكونات الإحباط والشعور بالهوان أمام العالم والفشل للأمة في هذه المرحلة إلى الانتقام من الجميع وإعلان العداء على الجميع القريب قبل البعيد وابن الملة قبل المنتمي إلى غير ملة الإسلام!
والتوسل بالدين لتحقيق الغايات البعيدة أو الأحلام المخبأة عند الزعامات المخفية ليس جديداً في التاريخ فقد استحل الخوارج في عهد الخلافة الراشدة دماء المسلمين وعاثوا في الأرض فساداً وقتلوا خليفة المسلمين علي بن أبي طالب في 17 رمضان 40هـ ولكنه لم يمت رضي الله عنه إلا بعد ثلاثة أيام من تلك الحادثة، وكانوا حفاظاً للقرآن زهاداً عباداً على غير فقه في الدين!
وقبل البغدادي بأكثر من ألف ومائة عام أي في سنة 287هـ أعلن حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط ثورته على الخلافة العباسية رافعاً الآية الكريمة على أعلامه (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص:5] وتاريخه الدموي وعداؤه للإسلام لا يخفى على أحد!
وما أمر خوارج اليوم عن خوارج الأمس ببعيد!