قال أستاذ الأدب الحديث بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور محمد بن عبد الله العوين إنه قبل خمسة وثلاثين عاماً تقريباً انطلق في فضائنا الثقافي مصطلح جديد، هو «الحداثة» ليواجهها مباشرة وبدون تأمل أو طول تفكير تيار متشبث بكل ما هو قديم، سواء كان ذلك القديم طيباً يعتز به ويحسن الدفاع عنه، أو كان مما توارثته الأجيال بدون تبصر وكان من الأولى التخلي عنه وتبيين مكامن الضعف فيه!
اشتعلت الحرب بين التيارين: الحداثة والمحافظة إن نحن أردنا أن نلطف العبارة ونعدل عن كلمة «الأصولية» لارتباك واختلاف وعدم استقرار مفهومها عند كثيرين, وتنابزَ التياران الألقاب والشتائم، بل وصلت الحرب بينهما إلى استعداء السلطات السياسية والدينية، وكان التيار المحافظ بطيفيه السلفي والإخواني في أوج صعودهما واحتلالهما المنابر، سواء كانت تلك المنابر خطب الجمعة أو الكاسيت أو وسائل الإعلام الرسمية سوى الملاحق الأدبية في الصحف التي كانت المتنفس الوحيد لتيار الحداثة ولم يستطع المحافظون الوصول إليها، ربما اجتهد بعضهم لنشر نصوص أو مقالات فيها، إلا أن جل المحررين في الصفحات الثقافية والمشرفين كانوا ينتمون إلى التيار الحداثي، وكانت وزارة الإعلام - آنذاك - تجنح إلى الانتصار للتيار المحافظ وتستجيب لشكاواه، والمحافظون لا يألون جهدا في رفع الشكايات والتظلمات من تسلط الحداثيين، وإدارة المطبوعات بين نارين، أخفها نار الحداثيين، فهم من تستطيع المطبوعات لجمهم وإسكات أصواتهم، إما بالإيقاف أو التحذير أو لفت النظر، رغبة في تهدئة الصوت التقليدي المحافظ الذي كان عالياً وله ضجيج وتأثير في الجماهير.
واستطرد العوين في وصف مرحلة الحداثة بقوله: استولى الحداثيون على الملاحق الأدبية وربما على الصحف واحتموا بها ولم يسمحوا بوصول الخطاب المتشدد إلى الصحف إلا جريدة واحدة بائسة كانت تغرد خارج السرب في تلك المرحلة وهي جريدة «الندوة» التي انقرضت الآن، وكانت تريد أن تحظى بتكوين متلقين ومتابعين لها من خلال رفع الصوت المحافظ في وجه خصومه المتنكرين للتراث والقيم والدين كما يرى المتشددون، وقد تزعم المواجهة الكاتب محمد عبد الله مليباري والصحفي المشرف على ملحق الندوة محمد موسم المفرجي والتف حولهما كوكبة ممن أخذتهم العاطفة الدينية والغيرة على الماضي كله بطيبه ورديئه من أن يمس بأذى!
وأضاف: سعى التيار المحافظ إلى الاستعانة والاحتماء بالرموز الدينية الكبيرة التي تحظى باحترام وإجلال من السلطة السياسية ومن الجماهير الشعبية، مثل الشيخ عبد العزيز بن باز مفتى المملكة - رحمه الله -، فلجأ إليه عوض القرني لتقديم كتيب صغير جمع فيه السقطات والتعبيرات الحداثية المنفلتة دون عقال من شعراء الحداثة، واقتص عوض القرني المندفع بغلواء ودون عقال أيضاً نحو تطرف آخر مواز لتطرف الحداثيين إلى اقتصاص العبارات من سياقاتها النصية على وزن «لا تقربوا الصلاة».
وتابع الدكتور العوين قوله بأنه قد زاد ذلك الكتيب من وهج النار المستعرة التي بدأت خفيفة متباعدة الاشتعال على مدى سنوات من تكون التيار الحداثي مطلع القرن الهجري الخامس عشر الجديد، بيد أنه وجد من المؤثرات الأخرى السياسية ما ضاعف الحملة عليه، كحدوث أزمة الخليج بغزو العراق الكويت واحتشاد قوات ثلاثين دولة لمواجهة قوات صدام وإخراجه من الكويت، فوجد التيار المتشدد الذي يبني أيضاً له قواعد ويكون جماهير ويضع خططاً ويجهز كوادره لمرحلة قادمة من خوض المعارك مع السلطة ومع المناوئين له ممن يقلقون أو ينتقدون تشدد التيار المحافظ وتزمته وهيمنته على الإعلام الرسمي والمنابر الدعوية وكثير من وجوه النشاط الاجتماعي وإغلاقه منافذ الحياة والانفتاح على العالم، وكان السلفيون منطوين على أنفسهم ومتكئين على وعي السلطة السياسية بالمنهج السلفي المعتدل واتفاقها معهم على أنه هو النهج الذي تسير عليه الدولة، ولم يكن - آنذاك - لدى الجانب السياسي ولا لدى السلفيين ولا لدى طبقات كثيرة من المجتمع السعودي في تلك المرحلة أي شك أو قلق من تيار الإخوان المسلمين الذي كان يواصل التحشيد والتجميع والاستقطاب لأفكاره، ويُنشئ له مراكز قوى بصورة سرية مدروسة ومخطط لها في كل مصلحة ومرفق حكومي أو مركز تعليمي أو دعوي، ووجد الساحة خالية له من أي تيار قوي واعٍ يكشف أفكاره أو ما ينطوي عليه، فقد كان حسن الظن في أي اتجاه ديني هو السائد عند السلطة وعند الناس، فخلا له الجو للعمل المنظم واشتغل على التأجيج بواسطة الكاسيت والفاكس اللذين كانا الوسيلتين الوحيدتين المؤثرتين، وانتشرت «التسجيلات الإسلامية» في كل زاوية وشارع وزقاق، وانقلبت بوتيرة سريعة محلات الكاسيت الغنائي إلى ما يعرف بالشريط الإسلامي، ولم يصمد في الرياض إلا محل أو محلان، وسرت العدوى إلى محلات الفيديو التي كان لها رواج وزبائن قبل البث الفضائي، فقد كان شريط الفيديو مصاحباً بصفة يومية أو شبه يومية عند كثيرين لوجبة العشاء كل ليلة، بل كان بعضهم يستأجر من تلك المحلات بالاشتراك الشهري في كل زيارة عشرة أشرطة، وتكوّنت تبعاً لذلك الإقبال المحموم على الفيديو لدى الجماهير السعودية ثقافة عالية أو شبه متخصصة في السينما المصرية والهندية والأمريكية، بحيث يعرف أي شاب أسماء الممثلين والممثلات من الجنسيات آنفة الذكر!
وواصل العوين سرده لتلك المرحلة بقوله: لقد رأى التيار المحافظ بشقيه السلفي والإخواني اللذين لم يفترقا بعد ولم يعلنا الحرب على بعضهما في الفيديو خطراً أخلاقياً داهماً كما كان الكاسيت الغنائي أيضا خطراً، فاجتهدا في شراء عشرات المحلات وتحويلها إلى إسلامية أو إغلاقها عن طريق التضييق عليها، إما بتكرار زيارات المراقبة من الهيئة أو من المتعاونين معها من مراقبي إدارة المطبوعات في وزارة الإعلام إلى أن يقع الفأس في الرأس ويجدوا مسوغاً حقيقياً لإغلاق المحل، حتى إن أحد أصحاب المحلات ابتلاه مندفع من المندفعين الكثيرين - كما قال والعهدة عليه - فدس شريطاً ممنوعاً بين أشرطة المحل التي تزيد على عشرة آلاف، وبتدقيق التفتيش وجد الممنوع، فطبق النظام عليه بالغلق والمصادرة, وهكذا إذاً تحولت وسائل التسلية من كاسيت غنائي وفيديو إلى ما يناقضها تماماً، بحيث أصبحت توزع أشرطة كاسيت ملتهبة تحرض على استنهاض الهمم لمواجهة الحضارة الغربية الزاحفة، والاستعداد للذود عن حياض الدين والقيم بتكوين جيل جديد هو طليعة الشبيبة الإسلامية الذي سينهض بالأمة ويوقظها من سباتها الطويل كما كانت تتحدث أشرطة نارية مثل «سقوط الأمم» وغيره، فدفعت الشباب دفعاً إلى الانضواء تحت سلطة إغواء خطاب التيار الإخواني من أولئك الشباب الفطريين الذين نشأوا في بيئة سلفية محافظة ولديهم كما لدينا جميعا ساكناً بين جوانحنا المشاعر الدينية والعاطفة الإسلامية التي تؤجج سريعاً مع أي حدث مؤلم أو أي خطاب بليغ ملتهب, فانطوى التيار الحداثي على نفسه، لكثرة ما حورب من المحافظين وضيّق عليه من إدارة المطبوعات وهمش من إدارة النشاط الثقافي في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، أما الإذاعة والتلفزيون فقد كانا أيضاً شديدي الحذر والتخوف من استضافة المتطرفين في الحداثة أو نقل محاضراتهم أو الدخول في خصوماتهم الفكرية، وربما كانت الإذاعة أكثر نشاطاً في البرامج الأدبية والثقافية، أما التلفزيون فلم يكن يُعنى بأي جانب من جوانب الأدب والثقافة في تلك المرحلة، ورحّل الحداثيون حراكهم إلى خارج المملكة بعد أن يئسوا من الداخل ومن احتضان رئاسة الشباب ما لديهم من إبداع شعري ونقدي وفكري، واجتهدوا في التواصل مع الرموز الأدبية والفكرية والمشرفين على المهرجانات والمنتديات والمحافل في الخليج والوطن العربي فسمعت أصواتهم منبرياً وتواجدت كتبهم في دور النشر في البحرين وبغداد - قبل غو العراق الكويت - وفي القاهرة وبيروت وتونس والمغرب وغيرها، فكانوا سفراء للأدب وللثقافة السعودية عند الشعوب العربية بدون تكليف، بل على غير رضا من الجهات الرسمية، وحقق عدد من المنتمين إلى الحداثة الشعرية والمتخذين مواقف نقدية ميالة إلى المدارس الغربية أو الشرقية العالمية وتطبيقاتها على النصوص الإبداعية حضوراً كبيراً في الأوساط الثقافية العربية، واشتهرت أسماء سعودية إبداعية ونقدية في الفضاء العربي كله، مثل عبد الله الغذامي، وسعد البازعي، وسعيد السريحي، ومحمد جبر الحربي، وعبد الله الصيخان، وخديجة العمري، وعلي الدميني، على تفاوت عطاءاتهم وتقدم بعضهم على بعض في الموهبة والتحصيل العلمي.
ويضيف الدكتور العوين: أحكم المحافظون وبخاصة تيار الإخوان المسلمين قبضتهم قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على المنابر الدعوية وتغلغل في الجامعات وإدارات التعليم ولم يمنح فرصة لأي صوت تجديدي أو حداثي لإلقاء محاضرة في مركز صيفي أو جامعة أو مخيم، أو أن تمد له يد في نشر كتبه أو دواوينه، فاتجه الحداثيون بقضهم وقضيضهم إلى الخارج ينشرون في المدى بدمشق وفي الساقي ببيروت ولندن وفي المركز الثقافي العربي بالمغرب وغيرها.
وخلص الدكتور العوين إلى القول إن عشرين عاماً من النفوذ والتسيد والتسلط بدءاً من 1400هـ إلى نهاية عام 1420هـ، انهار الحلم التقليدي وتهاوت الآمال والأمنيات المتشددة والغالية والمتطرفة أحياناً إلى حد التكفير بالانقلاب على المجتمع كله والسيطرة عليه سياسياً عن طريق العنف كما حدث من أعمال إرهابية ارتكب جريرتها التكفيريون القاعديون الذين كان أكثرهم في الأصل محافظين فقط ثم اشتغل عليهم الحزبيون إلى أن غسلوا أدمغتهم وشط بهم التطرف بعيداً جداً عن محيط الغيرة الدينية أو الانزعاج مما يرونه منكراً أو الخوف والخشية من التغريب إلى أن يمعنوا في شططهم الفكري بتكفير السلطة والعلماء وكل من لا يرى أو يأخذ بآرائهم الشاطة المنحرفة، وهنا تنبهت السلطة السياسية إلى خطأ المهادنة والطبطبة القديمة، ورأوا أن التعامل اللين معهم رغم ما صدر من بعضهم من أفكار ضالة أو صوت مرتفع أو سعي إلى شق صف الوحدة الوطنية لم يكن التصرف الأسلم، فانقلبت المهادنة القديمة إلى مواجهة، وتحولت الساحة الفكرية والإعلامية والاجتماعية إلى ميدان حرب مع التطرف على كل الأصعدة بعد أن وصل خطرهم إلى العظم وهددوا الدولة والمجتمع بالفوضى والخراب وتدمير ما أنجز من وحدة وتنمية واستقرار وأمن خلال سبعة عقود من 1351هـ إلى 1420هـ، واليوم يريد أن يعيدها التيار المحافظ بأطيافه المتلونة المتداخلة السلفي مع الإخواني مع التقليدي جذعة من جديد, ويبدو أن الزمان غير الزمان، رغم أن المكان هو المكان، إلا أن هذا الجيل غير تلك الأجيال التي اختطفت، وأن الأحوال السياسية العربية والدولية والتجربة التي مرت بها المملكة مع التطرف مختلفة كل الاختلاف، فلا مكان من جديد لتيار يقف أمام التجديد والتحديث كما وقف بكل الشك والريبة جيل 1400هـ ومن بعده، والعالم قرية كونية بين يدي كل فرد منا بلا حدود أو قيود، لا جدوى اليوم من فسح أو منع محل تسجيلات أو فيديو أو مطبوعة كما كان الأمر من قبل، فالفرص في النشر وفي الاطلاع متساوية أمام التيارات كلها، وحتى لو أرادت السياسية نفسها منع وحجب خصومها فإنها لن تستطيع أن تفعل فما بالك بأفراد أو جماعات مؤدلجة, ولا مصلحة البتة اليوم من أحلام متطرفة تهاوت في افتعال معارك طواحين الهواء بين تيار التحديث الجارف الذي لم يستشر أحداً ولم يستأذن سلطة أو جماعة، ولا جدوى من تعلق بعض المحافظين بدعاوى الخوف من الحضارة الغربية من أجل احتواء الشبامن أبناء هذا الجيل بعد أن شتتت الحرب على الإرهاب جموع المتطرفين وفرقتهم بدداً في كل الجبهات المشتعلة في العراق وسوريا واليمن، أو في السجون والمعتقلات.
وختم العوين حديثه الطويل عن مرحلة الحداثة قائلاً: إنها حروب اليائسين المحبطين الذين يريدون أن يدخلوا إلى المعركة غير المتكافئة بسيوف متهالكة من خشب!