إن أكثر المجتمعات انفتانًا بالرذيلة هي تلك التي يُمارَس عليها المنع، والقمع، والحجب، باسم حماية الفضيلة. ذلك أن أدعياء حماية الفضيلة لا يحمون الفضيلة في حقيقة الأمر- بما هي جوهرٌ تربويٌّ، ذهنيٌّ ونفسيٌّ وروحيٌّ- وإنما مَثَلُهم كمَن يمنع أطفاله عن الخروج إلى الشارع، أو الحصول على اللقاحات اللازمة لمواجهة الفيروسات والأمراض، بحُجَّة أنه هو من سيحميهم بنفسه، ويصونهم عن تلك الفيروسات والأمراض! وهيهات! هو بذلك لا يعدو ارتكاب حماقةٍ في فَهْم سُنن الحياة، وطبائع الإنسان، والتعامل معهما. وسرعان ما تنكشف غباوته بمغادرة أطفاله للمعتقل الذي حاصرهم فيه، فإذا هم يتساقطون تباعًا، لا لأنهم فاسدون بطبعهم، ولا لأن الأجواء خارج المعتقل وراء ذلك السقوط الآثم، ولكن لأن مَن سَمَّى نفسه حارس الفضيلة وحامي ديارها قد أجرم في حقّ أبنائه، مبتدعًا رهبانيَّة، ما كُتبت عليه ولا عليهم، ولن يستطيع مطلقًا أن يرعاها حقّ رعايتها، اللهم إلَّا إنْ كان إلهًا! بل ستجده هو نفسه، أي مَن سَمَّى نفسه بـ«حارس الفضيلة»، وبما هو بشر غير محصّن من الخطيئة، عُرضةً للسقوط، سِرًّا أو علنًا؛ لأنه أضعف من أن يملك مقاومة، كما ينبغي للإنسان السويّ أن يملكها. مصداق هذا أن ترى أبناء المجتمعات المنفتحة- التي نُلقي عليها عادةً أبشع النعوت، من الكُفر إلى الانحلال- هم أكثر نُضجًا، وجِدًّا، وعقلانيَّةً، واتِّزانًا، وإنتاجيَّةً، وإبداعًا، وذوقًا، حتى في ممارسة ملذّاتهم، التي يُمارسها أبناء المجتمعات الأخرى، المنغلقة، بفجاجة ظاهرة، وسماجة سافرة، وبتوحُّشٍ مرضيٍّ، تستحيل به من مُتَعٍ شهوانيَّةٍ إلى فواحش وجرائم بشعة. لماذا؟ لأن أولئك قد تربَّوا على الامتناع عمَّا قد يَريبهم بمحض إراداتهم واختياراتهم، وليس لقمعٍ أعلَى، يَقرع بمطرقته هامات الرؤوس. حتى إذا هم قارفوها، لم يقارفوها تحدِّيًا، أو عن شَغَفٍ تعويضيٍّ، عن كبتٍ وحرمانٍ قديم؛ فلم يتهتَّكوا فيها تهتُّك نُظرائهم في المجتمعات النقيضة. إذ لا يفعل هذا لديهم إلَّا المرضَى النفسيّون، أو المجانين، أو الشواذّ، والشاذّ لا حُكم له، ولا عِبرة به. أمَّا الأسوياء، فإن مرُّوا بها، سرعان ما زهدوا فيها وعافوها. ولذا فإن أبناء المجتمعات الحُرَّة قد فرغوا من تلك السخافات السلوكيَّة، والمزالق العاطفيَّة، فلم تَعُد هاجسًا من جهةٍ، ولم تَعُد من جهةٍ أخرى حُلمًا طوباويًّا مُغويًا؛ فخلصوا إلى إنتاهم الجادّ، وعملهم الدؤوب، الذي يعمر الأرض اليوم ويخترق الكون. ولو كانت الحُريَّة خطرًا على المجتمعات، وكان عدمها منجاةً لها، لحدث العكس. أي لانهار المجتمع الغربي، ولضاع أبناؤه، ولذابت عقولهم، وانسحقت إنسانيَّتهم، وسطت بهم قُوى الأُمم الفاضلة المحتشمة! غير أن ما يُثبته الواقع هو عكس ذلك. ما يُثبته الواقع أن تلك المجتمعات هي التي تصنع العصر للعالم أجمع، وهي التي تدفع بالبشريَّة خطواتٍ فَلَكيةً غير مسبوقة إلى المستقبل، وهي، إلى ذلك، مجتمعات سامية الأخلاق، في الجملة، رفيعة الحِسِّ الإنسانيّ عند التحقيق، سواء تعلّق الأمر بالتعامل مع الإنسان، أو مع الحيوان، أو مع الطبيعة بصفة عامّة. تلك أحوالها الظاهرة، وإنْ شَوَّهتْ صورتها السياساتُ والدُّولُ، التي تحكمها المطامع ولا تؤمن إلّا بالمصالح. ونحن ما لم نُكاشف أنفسنا بهذه الدروس- الباعثة على مراجعة مسلّماتنا المتوارثة- فلن نُفلح أبدًا؛ لأننا بذلك إنما نستمرئ الضحك على أنفسنا، والغِشَّ لأبنائنا، والاقتيات على العبث والتنجيم عن يومٍ سيُشرق على غير ما بتنا عليه!
لا معنى للأخلاق، إذن، دونما حريَّة اختيار، ولا مزيَّة لأخلاقيٍّ على غير أخلاقيٍّ، ما دام كلاهما في معزلٍ عن اختبارات الحياة والحُريَّة أصلًا. لأجل هذا كان الابتلاء، وكان الامتحان، وكان الشيطان؛ بهدف التمحيص، وصقل المعادن. ولأجل هذا أيضًا لم يكلِّف الله العبد، ولم يُؤاخذه بما يُؤاخذ عليه الحُرّ. وقد كان الله سبحانه قادرًا على محو الشيطان من الوجود، وكان قادرًا قبل ذلك على منعه من دخول الجَنَّة، ومن احتكاكه بآدم وحواء. بيد أنه اختبار «العزم»، وحُريّة تقرير المصير؟ وعلى الرغم من أنه لم يَجِد لآدم عزمًا، بادئ الأمر، فقد كان ذلك له بمثابة التجربة المَرَضِيَّة، التي هي شرٌّ لا بُدّ منه، لكنه شرٌّ حيويٌّ، يُكسب الصِّحَّةَ مناعتَها، كيلا تُلدَغ من جُحرٍ مرتين، وكي يتلقَّى من بعدُ آدمُ من ربِّه كلمات فيتوب عليه.
على أن أُفهوم (الشيطان) في الإسلام غير (إبليس)، وإنْ كان يُرادفه كثيرًا. فـ«إبليس»: هو ذلك المَلَك الذي عصَى أمر الله بالسجود لآدم، فصار شيطانًا، ثم كانت الحكاية المذكورة في القرآن. «وإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى?، واسْتَكْبَرَ، وكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ». إبليس: مَلَكٌ كريم، تحوَّل إلى شيطانٍ رجيمٍ، باختياره. لكن الشياطين عداه كُثْرٌ، قبله وبعده؛ فلقب «الشيطان» يَصدق على كلّ متشيطن. لهذا نجد القرآن، بعد تلك الحادثة، لم يَعُد يسميه «إبليس»، بل «الشيطان». فهذا وَسْمُه الجديد، ولقبه المكتسب بعد عصيانه: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ، وقُلْنَا: اهْبِطُوا، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، ولَكُمْ في الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إِلَى? حِينٍ». ولا تسعنا موافقة (محمد عابد الجابري)(1) على أن «الشيطان» هنا إنما هو: «هوى النفس»؛ لأن ذلك يتعارض مع آياتٍ أُخَر، واضحة الدِّلالة على أن «الشيطان» المذكور هو «إبليس». كقوله تعالى: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا، وقَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ، أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وقَاسَمَهُمَا: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ! فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ، بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا: أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ، وأَقُلْ لَكُمَا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ؟!» وفي آيةٍ أخرى: «يَا بَنِي آدَمَ، لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِنَ الجَنَّةِ، يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا؛ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ؛ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ». فلا يصحّ بعد هذا- ولا حتى تأوّلًا- زعمُ الجابري، متجاهلًا للنصوص: أن «معنى الشيطان هنا، كما في مواضع كثيرة، هو «ما يوسوس في النفس»، هو«الهوى»، هو التصرّف بدافع الشهوة والاشتهاء»؛ فالإشارات واضحة في الآيات إلى ذلك الكائن الشيطاني،لا إلى الإنسان، ولا إلى مجرد «هوى نفسه». وما استزلّ الجابريَّ، إلى هذه الورطة إلّا خطابه في ذلك السياق، مجادلًا، بأن المسلمين، ومنذ نزلتْ آية الحِجاب، كانوا على خطأ في القول بأن المرأة «فتنة» للرجل. بل هو يذهب إلى أبعد من هذا، قائلًا إن المرأة لا ذنب لها، وإنْ أغوت الرجل عامدةً متعمدةً، حيث قال: «أمّا القول بضرورة فرض نوع من الحِجاب على المرأة حتى لا يفتتن بها، فهذا يخالف نص القرآن («ولا تزر وازرة وزر أخرى»). فلماذا نحمّل المرأة وزر الرجل لكونه لا يستجيب للآية التي تدعوه إلى غض البصر؟ أمّا إذا فرضنا أن امرأة (استثارت عمدًا) أحد الرجال، وأنه استجاب لإغرائها (فالذنب ذنبه تمامًا)، كما إذا استثارت قنينة خمرٍ شهوة الرجل فشرب منها، فالذنب ليس ذنب القنينة»! هكذا يرى الرجل! وبذا تحوَّلت المرأة لديه إلى مجرّد «قنّينة»، بريئة، لا ذنب لها، لك أن تشرب أو لا تشرب، يا رجل؛ فالذنب ذنبك في النهاية! وربما شبّهها آخر بـ«حشيش»، لا يجبرك على التعاطي! للمرأة إذن- وَفق هذا القياس التشييئي القنِّيني- أن تلبس كما تشاء، أو أن لا تلبس، وأن تُغري وأن تغوي ما شاءت مواهبها، وإنْ عمدًا، وعليك أنت، يا حبيبي، غضَّ البصر، كما تغضّ البصر عن قنّينة خمر، حتى لا تغويك، لا قدّر الله، فتهجم عليها وتَسْكَر، فتقع في الرجس والحرام. أمّا «إذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ، خَافِضَةٌ رافِعَةٌ، إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا، وبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا»؛ فأنت أنت السبب، والذنب ذنبك وحدك؛ لِمَ لم تقفل عينيك! مع أن «غضّ البصر» إنما شُرِع في ما يقتضيه الخُلق إزاء ما تدعو إليه بعض الضرورات الحياتيَّة أو الاتفاقات أو المصادفات العابرة، ولم يُفهم منه، وما ينبغي لعاقلٍ أن يفهم منه، أنه يعني أن لا بأس على المرأة أن تكون أمام الرجال كما شاءت وشاء لها الهوى، وعليهم هم أن يظلّوا غاضِّي البصر! وإلّا كانوا حينئذٍ مضطرّين إلى (كفّ البصر)، لا (غضّ البصر)! ثمّ هل علاقة الرجل بالمرأة لا تعدو علاقته بقنّينة خمر؟! إنه قياس عجيب! بل أين ذهبت آية «ولا يُبدين زينتهن...»، من هذا التفسير العابدي الجديد والفقه الجابري المبتكر؟!
هذا يقفنا على تطرُّفَين في خطابنا الثقافي: تطرُّف يبدو المسلم فيه قد بلغ به إسلامه سقفًا أعلى من الإسلام؛ فهو يرى نفسه أكبر من الإسلام، وأكثر وَرَعًا من الرسول نفسه، وهؤلاء هم المتنطِّعون، وكانوا منذ عهد الرسول، لا يتورَّع أحدهم عن محاولة الاستدراك على صاحب الرسالة شخصيًّا. وبذلك هَلَكَ المتنطّعون. وتطرُّف نقيض، يسعى إلى الانغسال من دوالِّ العقل والنقل معًا، متوسِّلًا التأويلات الفاحشة، لكي يتملَّق تيّاراتٍ أو يتقرّب إلى توجّهات، ولو اقتضى الأمر في سبيل ذلك أن يركب كل صعبٍ، وبالمقلوب. وهنا يبرز الفرق بين منطقٍ يُمالئ ثقافةً أخرى كي يتبرأ من ثقافته، جذريًّا، فيقع في المغالطات، ومنطقٍ، يستأهل هذا الاسم، كمنطق (هيجل)(2)، وهو يناقش- لا سلوك المرأة الفاتنة المُغوية مباشرة فقط، بل الأدب الذي يُغري بالرذيلة، ويلتفّ على المنكرين لتبرير ذلك، مع أن النصّ الأدبي مجرّد كلامٍ وخيال- فيقول، مسفّهًا الدعاوَى لدى المدافعين عن (أعمالهم الفنّيَّة اللا أخلاقيَّة): «لقد حامَى بعضهم عن التمثيلات الفنِّيَّة والأعمال الأدبيَّة الأكثر نأيًا عن الأخلاق وأوجدَ الأعذار والمبرّرات لها؛ بحُجَّة أن المرء بحاجةٍ، لكي يكون أخلاقيًّا، إلى أن يعرف الشرَّ والخطيئة أيضًا، وأنه لكي يكون في إمكانه تعرُّف الخير فلا غنَى له عن معرفة نقيض الخير، وعلى هذا النحو خُيِّل لبعضهم أنه مستطيع تبرير اللا أخلاقيَّة في الفنّ! وهذا لم يمنع بعضهم الآخر من القول: إن تمثيلات مريم المجدليّة، الخاطئة الحسناء، قد أوردت مواردَ الخطيئة عددًا من الرجال يفوق بكثير عدد من قادتهم إلى التوبة والندامة». ثم يتساءل في نبرةٍ ساخر: «لكن أ ليس من الضروري أن يقع المرء في شِراك الخطيئة حتى يمكنه أن يتوب؟!» أمّا بحسب المتذرع بأن «لا تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى»، فالنجاة من الخطيئة سهلة جدًّا، أن نُغضّ البصر، والبصيرة أيضًا- إنْ لم يمتعنا الله بكفّ البصر وغير البصر- أو أن لا نقرأ الرواية. وحبّذا أن نكون صُمًّا بُكمًا عُميًا، فلا نشعر؛ لكيلا يكون حِجاب، ولا عقاب، ولا فتنة، ولكيلا تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى! ويا له من فقهٍ عظيم، غاب عن فطنة السماء والأرض معًا!
وبذا نقف على خطابٍ «حداثيٍّ» متطرّفٍ إزاء خطابٍ «سَلَفيٍّ» متطرّف: مِن تطرّف نسبة الخطيئة إلى حوّاء، وأنها سبب خروج آدم من الجَنَّة، إلى تطرّف تبرئتها من كلّ تبعةٍ أو مسؤوليّة أخلاقيّة، وإنْ سعت سعيها إلى الإيقاع بفرائسها، مع سبق الإصرار والترصّد. بين شِقَّي هذه الرَّحَى يُغيَّب العقل ويُنفَى العدل، وتضيع الفردوسُ بين الحُريّة والشيطان!
***
(1) من مقال بعنوان «المرأة المفترى عليها»، «منبر الدكتور محمد عابد الجابري: على طريق تجديد الفكر العربي»، على الرابط:
http://www.aljabriabed.net/conceptislam11.htm
(2) (1988)، المدخل إلى علم الجمال/ فكرة الجمال، تر. جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 56.