تحقق المؤسسات المالية سواء كانت شركات أو مؤسسات تجارية أو مصارف مالية العاملة في المجتمع أرباحاً مالية كبيرة على مدار العام جراء أنشطتها المتعددة، ويظهر ذلك جلياً من خلال ما تعلنه من أرباح عند عرضها ولإعلانها لقوائمها المالية في وسائل الإعلام سيما الشركات المساهمة، أو المصارف ونحوها، ولا شك أن هذه الأرباح ناتجة عن تعاملات المجتمع مع هذه المؤسسات المالية بشكل يومي، في مقابل ذلك هل قامت هذه المؤسسات بدعم خطط التنمية في المجتمع؟ وهل كان لها أي إسهام في تنمية المجتمع وجعلت هدفها الاقتصادي يلتقي بالهدف الاجتماعي؟ طرحنا هذا التساؤل على اثنين من المتخصصين في العمل المؤسسي والخيري ليتحدثا عن تلك المحاور في المجتمع المسلم خاصة.. فماذا كانت رؤاهم تجاه ذلك؟!
مبادئ المسؤولية
يقول د. إبراهيم بن سليمان الحيدري الأكاديمي المختص في المسؤولية المجتمعية والعمل الخيري: إن أكثر تعاريف المسؤولية المجتمعية للشركات المسؤولية المجتمعية CSR تشير إلى أنها مسؤولية غير ملزمة قانونياً (تطوعية) على الشركات، إلا أن التجربة الغربية توضح أن أغلب الشركات لاسيما الكبيرة تبنت مفهوم ومبادئ المسؤولية المجتمعية وأصبحت جزءا لا يتجزأ من إستراتيجيتها طويلة المدى Corporate Strategy وعنصرا مهما في ثقافتها التنظيمية Corporate Culture. ويرجع الفضل في ذلك إلى النتائج العظيمة التي تعود على الشركات جراء تبني وممارسة مفهوم المسؤولية المجتمعية فحسب مجلة Fortune هناك أكثر من 85% من أكبر 500 شركة في العالم تصدر تقارير مستقلة عن نشاطاتها في المسؤولية المجتمعية، مما يعني أن هذه الشركات لديها ممارسة في المسؤولية المجتمع تفتخر بها وتريد أن تظهرها للناس، وفي كندا 75% من الشركات تنشر على مواقعها في الإنترنت معلومات وافية عن برامجها للمسؤولية المجتمعية. ولعل أبرز ثمرات تبني مفهوم المسؤولية المجتمعية بين الشركات هو أن هذا المفهوم عزز هدفها الاقتصادي وعظم أربحاها ومكانتها السوقية على المدى الطويل فوعي المجتمعات الغربية جعلها تفضل منتجات الشركات المسؤولة اجتماعياً على منتجات الشركات غير المسؤولية اجتماعياً فالدراسات المتواترة تشير إلى أن المستهلكين مستعدين لدفع مبلغ أكبر لمنتج من شركة مسؤولة مجتمعياً ويحتفظون بولاء لها ويقفون موقف العداء لتلك الشركات التي عرف عنها عدم مبالاتها بمسؤوليتها المجتمعية.
لكن الثمرات لا تقف عند تحقيق أرباح أكبر بل تتعداه إلى تكوين سمعة جيدة عن الشركة وقدرتها على جذب موظفين ومساهمين وموردين موزعين والاحتفاظ بهم. وأصبحت اليوم الممارسة الأخلاقية للأعمال ميزة تنافسية لشركات اليوم في الغرب. حقق مفهوم المسؤولية المجتمعية رواجاً في الدول الغربية لأنه تطور ونضج ليصبح مفهوماً شاملاً شمل المحاور الأساسية في علاقة الشركات بالمجتمع من حولها فحسب مفهوم Ps3 فإن المسؤولية المجتمعية تعتني بثلاثة محاور مهمة وهي الأرباح Profit والناس People والبيئة Planet وهي بذلك لا تهتم بجانب على حساب جانب فاهتمامها بالبيئة والناس من حولها باختلاف شرائحهم ومصالح الأطراف المرتبطة بعمل الشركة لا يؤثر على تحقيقها لهدف الشركة الأساسي والغرض المبدئي لإنشائها وهو تعظيم أرباح المساهمين.
أبرز ما يميز التجربة الغربية هو أنها جعلت هدفها الاقتصادي يلتقي بهدفها الاجتماعي في علاقة متكاملة ومنسجمة غير متوترة وهو السبب الذي جعل من سوق المسؤولية المجتمعية سوقاً رائجاً بالمفاهيم والأعمال النبيلة، كما أن اهتمام الشركات بتحقيق الاستدامة وهو المفهوم الذي يؤكد على أهمية امتلاك الشركات لقدرات دائمة تمكنها من تحقيق النجاح على المدى الطويل والمحافظة، هذا الاهتمام جعل الشركات تهتم ببعض المفاهيم والممارسات مثل المسؤولية المجتمعية للشركات التي أثبت أثرها في المساهمة بتحقيق نجاحات دائمة للشركة. وعلى كثرة الضرائب التي تدفعها الشركات في الدول الغربية، إلا أنها تجد في ميزانياتها مجالاً لتكاليف أنشطة ومبادرات المسؤولية المجتمعية في استشعار ملفت للنظر لمصالح الأطراف التي تتعامل معها الشركة وقد جرت العادة على أن تخصص الشركات 1% إلى 2% من أرباحها السنوية لصالح أنشطة وبرامج المسؤولية المجتمعية، إلا أن أكثر الشركات الكبيرة لا تكتفي بهذه النسبة فقط فنجدها تتبني إنشاء صناديق خيرية أو مؤسسات مانحة كذراع خيري يتولى هندسة وتمويل أعمال خيرية من خلال عقد شراكات مع جهات خيرية تنفيذية متخصصة، كما أن كثيراً من الشركات تقوم بأعمال وأنشطة غير مكلفة مادياً تعكس استشعارها بالمسؤولية المجتمعية من خلال موظفيها أو مرافقها، وفيما يلي مثالين على ذلك:
- صمم بنك HSBC البريطاني مبادرة للاهتمام بالمياه مدتها خمس سنوات، تهدف إلى توفير مياه نقية لمليون شخص وتوفير الصرف الصحي ل2 مليون شخص في جنوب أسيا وغرب أفريقيا، تم الدخول في شراكة إستراتيجية مع ثلاث جمعيات خيرية عالمية تعمل في المياه لتنفيذ هذه المبادرة. وقد ساهم أكثر من 100 ألف من موظفي البنك حول العالم في مشاريع تعليمية وبحثية لدعم هذه المبادرة كأداة استخدمها البنك لإشراك موظفيه للعمل شخصيا في حل مشكلات المجتمعات الفقيرة.
وأما شركة TD الكندية وهي شركة عملاقة فقد غرست مسؤوليتها المجتمعية في إستراتيجيتها العامة من خلال العناصر الأربع التالية: التركيز على العميل، وبناء بيئة عمل متميزة، وأن نكون قادة بيئيين، وتقوية مجتمعاتنا، من خلال: إعطاء دعم مالي لإيجاد تغيير - تشجيع الموظفين للتطوع التحالف مع الشركاء في المجتمع - التأثير على الموردين والموزعين لممارسة مسؤولة.
ومن نتائج اهتمام الشركة بالمجتمع لعام 2013 ما يلي: 75 مليون دولار تم التبرع بها لمنظمات خيرية في كندا وبريطانيا، 5000 منظمة غير ربحية تم دعمها، 11 ألف متطوع، 65 ألف ساعة تطوع من موظفي الشركة.
بقي الإشارة إلى أن مفهوم وممارسة المسؤولية المجتمعية للشركات مرتبطة بشكل كبير بالبيئة التي تمارس فيها وطبيعة عمل الشركات وحاجات المجتمعات التي تعيش فيها الشركات، ولذا فهناك تساؤل كبير عن مدى إمكانية تطبيق مبادئ المسؤولية المجتمعية للشركات بمعاييرها العالمية في مجتمع مثل المملكة العربية السعودية وأهمية تحسين مفاهيم ومبادئ المسؤولية المجتمعية للشركات بما يتناسب مع البيئة المحلية.
ضعف المسؤولية!!
ويستهل الدكتور خالد بن هدوب المهيدب رئيس مجلس إدارة جمعية البر الخيرية بحوطة سدير حديثه بالقول: وصف صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز يحفظه الله البنوك السعودية بـ»المنشار» وذلك خلال حضوره مؤخراً حفل مؤسسة الملك خالد الخيرية بقوله: «أنا أسمّيها المنشار داخل يأكل طالع يأكل، وهي مقلّة في أشياء كثيرة، وعطاؤها قليل مقابل ما تستفيد به من المواطنين والدولة»، متسائلاً: «أعطني بنكًا واحدًا تبرع بشيء أو يدعم بأي شيء»، وسبق أن تناول عدد كبير من الكتاب والمثقفين موضوع المسؤولية الاجتماعية للبنوك وتطابقت الآراء حول غياب أو ضعف برامج المسؤولية الاجتماعية للبنوك السعودية التي تحظى بامتيازات وتسهيلات لا تكاد توجد في دول من دول العالم، فنسبة كبيرة من عملاء البنوك تورعاً لا يأخذون الفوائد البنكية على تشغيل أموالهم المودعة في البنوك لحرمتها ؛ إضافة إلى ما تحظى به البنوك من الإعفاء من الضرائب المفروضة على نظائرها من البنوك العاملة في الدول الأخرى كما أنه لا يوجد نظام يلزم البنوك بتمويل برامج تخدم المجتمع مما جعل البنوك في بلادنا تعد الأكثر ربحاً واستفادة من مقدرات الوطن، ومدخرات المواطنين، ومع ذلك لا تقدم لهذا الوطن، ولا للمواطنين الذين هم سبب أرباحها الطائلة، خدمات اجتماعية تتناسب مع أرباحها الفلكية التي بلغت خلال العام المنصرم قرابة 40 مليار ريال! واتفق مع ما ذهب إليه من تناولوا هذا الموضوع بضرورة إعادة النظر في واقع البنوك الحالي وأرى أن تتبنى الدولة نظاماً يقضي بإلزام البنوك بالمساهمة في برامج المسؤولية الاجتماعية وأن تلزم بالمساهمة بما لا يقل عن نسبة 5% من أرباحها السنوية لتوجه للصرف على الجمعيات والمؤسسات الخيرية الخاضعة لإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية مع مراعاة ألا يتم توظيف وصرف ما يفرض على البنوك (إن فرض) تحت مسمى «المسؤولية الاجتماعية» إلا فيما يصب في خدمة المجتمع لا كالذي أشار إليه الأخ عبدالله الدريس في تغريدة له بقوله «من أسوأ ما سمعته يتداول اقتراح تخصيص مصارف المسؤولية الاجتماعية للبنوك لدعم الرياضة، بدلاً عن قيام البنوك بمسؤوليتها تجاه المجتمع لخدمته بمشاريع خيرية وتنموية تعطى الأندية هذه المبالغ للتخلص من ديون إدارتها الفاشلة فالرياضة لدينا مختزلة فقط في كرة القدم، بقية أهدافها شبه معطلة حالياً، لذلك ستصرف هذه المبالغ في سداد الديون وشراء اللاعبين ودفع مستحقتهم! ويقول: إذا فتح لها مصرف الرياضة ستتحول إلى إعلانات مدفوعة الثمن تحت غطاء خيري!.
المجتمع ينقصه الكثير من التنمية والمشروعات الخيرية التي تساهم في تأهيل الشباب ومساعدة الفقراء والمحتاجين، هنا المصرف الحقيقي للمسؤولية الاجتماعية! ودعا رجال الدولة المخلصين، ورجال العمل الخيري، ومن تشغلهم هموم المجتمع من وجهاء وإعلاميين وخاصة الشباب إلى قطع الطريق أمام هذه الفكرة ووأدها! فالمسؤولية الاجتماعية لدى البنوك والشركات هي حق لكل شاب وفتاة ومعاق وفقير ومحتاج، لأن هذه البنوك لم تكن لتحقق أرباحاً لولا تعامل المجتمع معها! وتأكيداً لما ذكرته من عدم استفادة الجمعيات الخيرية من الفتات الذي ترصده بعض البنوك حالياً تحت مسمى «المسؤولية الاجتماعية» جمعية البر الخيرية بحوطة سدير التي كلفت برئاستها لا أذكر أنه وردنا تبرع من أي من البنوك المحلية ولو بريال واحد! مع أن هذه الجمعيات الخيرية الرسمية التي تعمل تحت مظلة الدولة تستهدف في خدماتها الشريحة الأكثر حاجة وعوزاً وفقراً في المجتمع وتتبنى كفالة ورعاية آلاف الأسر والأيتام والأرامل وغيرها من المشاريع والبرامج الخيرية والتنموية. فلو وجد نظام يلزم البنوك بأن يكون لها دور فاعل في برامج المسؤولية الاجتماعية بنسبة 5% من أرباحها السنوية لاستفاد الوطن قرابة ملياري ريال سنوياً وأجزم أن هذا المبلغ لو تم استحصاله وتوزيعه على جمعيات البر الخيرية لكان له أثر ملموس في المساهمة في القضاء على الفقر ودعم للبرامج والمشاريع التي تقوم بها الجمعيات الخيرية وتصب في مصلحة الفئة الأكثر عوزاً وفقراً في المجتمع فمن يعلق الجرس!