في التحضير لقمة دفاع الاتحاد الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حَذَّر الجنرال البريطاني نِك هوتون أن قوات المملكة المتحدة المسلحة تخاطر بالتحول إلى كيان «مفرغ». وقال هوتون إن أقل القليل من ميزانية الدفاع البريطانيا كان ينفَق على الأفراد والعاملين بوزارة الدفاع، في حين يُنفَق أكثر مما ينبغي على معدات «فخمة» اشتريت لأسباب خاطئة. وأضاف محذراً: «وينبغي لنا أيضاً أن نتوخى الحذر حتى لا تستخدم ميزانية الدفاع على نحو غير متناسب لدعم صناعة الدفاع البريطانية».
ولا تقل مخاوف هوتون ارتباطاً - إن لم تكن أكثر ارتباطاً - بأمن أوروبا بالكامل. وعندما يتعلق الأمر باستخدام ميزانية الدفاع لخدمة أهدافها في مجالات مثل الصناعة أو تشغيل العمالة أو السياسة الإقليمية، فمن المؤكد أن المملكة المتحدة ليست أسوأ المذنبين. وربما أعلن زعماء أوروبا في ديسمبر الماضي أن «الدفاعي يشكل أهمية كبرى»، ولكن من الواضح أنه ليس على القدر نفسه من أهمية مخاوفهم الاقتصادية.
إن التأكيد على سياسة ما وممارسة سياسة أخرى أمر غير صحي للديمقراطية، فضلاً عن كون ذلك غير فعّال من الناحية الاقتصادية. ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن افتقار أوروبا إلى الجدية في التعامل مع الدفاع يفترض غياب أي تهديد عسكري، ويشير إلى أن إبراز القوة والنفوذ على المستوى الدولي أصبح على نحو أو آخر في غير محله، وعتيقاً، أو حتى كريهاً في العصر الحديث.
ورغم هذا، فإننا كثيراً ما نُصاب بالدهشة الشديدة إزاء الغزوات والمغامرات العسكرية، سواء في جزر فوكلاند أو الكويت قبل عقود من الزمان، أو في أوكرانيا اليوم، وقد اكتشفنا أن «المستقبل المنظور» يكاد لا يبعد عنا أكثر من بضعة أيام. والأمر الأسوأ من هذا هو أن الموقف السائد في التعامل مع الدفاع يتغافل عن الدور البالغ الأهمية الذي تلعبه القوات المسلحة في الردع.
الواقع أن التهديدات ليست كمثل الظواهر الجوية؛ فهي مدعومة بحسابات بشرية (وهو الأمر الذي نتعمد حجبه عندما ندرج الأوبئة وتغير المناخ في تعريفنا للأمن). وتتأثر هذه الحسابات إلى حد كبير بتصورات حول استعداد الجانب الآخر وقدرته على المقاومة. الأمر باختصار أننا بتقاعسنا عن التعامل بجدية مع الدفاع نجازف بتحويل التهديدات إلى واقع ملموس.
ومن هذا المنطلق فإن أزمة أوكرانيا لابد أن تشكل نوبة صحيان طال انتظارها. ولكن زعماء أوروبا لم يسارعوا إلى الاستجابة لنداءات أميركا لزيادة الإنفاق الدفاعي. فهم يفضلون مواجهة روسيا كما فعلوا في القرن العشرين - من تحت جناح أميركا الواقي.
ولكن المحاولات الأوروبية الرامية إلى تجنب الاضطلاع بأي دور يتعلق بالأمن العالمي تمتد إلى ما أعمق حتى من ذلك.
فبرغم كل عداوات بوتن الانتهازية، لا تشكل المؤسسة العسكرية الروسية سوى ظل ما كانت عليه في عصر الاتحاد السوفييتي - وهي لا تقارن بحلف شمال الأطلسي.
والواقع أن أوروبا تنفق ثلاثة أمثال ما تنفقه روسيا على الدفاع. وعلى هذا فإن التركيز على التهديد الذي تفرضه روسيا - وبخاصة من وراء درع القوة الأميركية - يشكل خياراً أكثر جاذبية من مذهب التدخل الليبرالي الذي دام طيلة العقدين الماضيين، مع كل ما ينطوي عليه هذا المذهب من تكاليف ومخاطر وشكوك.
كانت التدخلات الفوضوية في العراق وأفغانستان، جنباً إلى جنب مع الأزمة المالية العالمية، من الأسباب التي دفعت البلدان الأوروبية إلى الانغلاق على ذاتها، والتركيز على اقتصاداتها وحماية حدودها، في حين تركت بقية العالم يتدبر أموره بنفسه.
ولكن بالنسبة للأوروبيين، يُعَد التخلي عن أي طموح في ما يتصل بتشكيل العالم خطأً إستراتيجياً كبيراً. ذلك أن الدرس الحقيقي المستفاد من أوكرانيا - ومن فشل أوروبا في اغتنام الفرصة التي أتاحها لها الربيع العربي للتأثير على الأحداث في الشرق الأوسط - يتلخص في أن «القوة الناعمة» التي كثيراً ما تتباهى بها أوروبا جوفاء في نهاية المطاف.
الواقع أن الأزمة الاقتصادية في أوروبا أدت بالفعل إلى الحد من قدرتها على تعزيز مصالحها وقيمها في مختلف أنحاء العالم. والشاهد على ذلك النزعة التجارية التي يتحلى بها زعماء أوروبا الوطنيون ودبلوماسيوها، الذين يتدافعون بالمناكب في بكين وبلدان الخليج بحثاً عن الاستثمارات وطلبات التصدير.
وفي حين تدرك الولايات المتحدة المخاوف الأمنية في آسيا، فإن الأوروبيين لا يرون سوى سوق هائلة الحجم. وتبيع ألمانيا الأسلحة كما لو كانت مجرد معدات آلية مكلفة.
ولكن حتى «الواقعيين» يدركون أن التنازل عن الزعامة العالمية لصالح قوى جديدة أكثر تعطشاً للزعامة لن يؤمن مستقبل أطفالنا. إن ازدهار أوروبا يعتمد على قدرتها على المطالبة بتجارة حرة وعادلة، والحفاظ على قدرتها على الوصول إلى المواد الخام، والإصرار على الحد الأدنى للمعايير البيئية والاجتماعية في إدارة أعمالها التجارية.
مع انجذاب قسم كبير من العالم إلى نموذج رأسمالية الدولة في الصين، ومع التركيز حتى في ديمقراطيات ناشئة مثل البرازيل والهند على السيادة الوطنية وعدم التدخل بدلاً من احتضان نظام دولي قائم على القواعد، ينبغي لأوروبا أن تكون قادرة على فرض نفوذها وقيمها. وهذا يتطلب القوة العسكرية.
ربما ينتمي الأوروبيون، ولكن ليس بقية العالم، إلى فكر «ما بعد الحداثة». ففي مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، سنجد أن الزعماء الوطنيين إما قادة عسكريون أو مشغولون بمسائل عسكرية. وهم يريدون الأسلحة والتدريب والمشورة والمعلومات الاستخباراتية، فضلاً عن الاطمئنان إلى أن شركائهم يفهمون الشؤون العسكرية وقادرون على إظهار قدراتهم العسكرية. ولا يحتاج زعماء أوروبا إلى اللجوء إلى دبلوماسية القسرية لحل كل النزاعات السياسية، ولكن يتعين عليهم أن يفهموا كيف تعمل القوات المسلحة كأداة من أدوات حرفة الحكم.
إن أوروبا في احتياج إلى إستراتيجية جديدة.
ويتعين على زعمائها أن يعيدوا تقييماً للكيفية التي يتغير بها العالم وأن يتبنوا مبادئ ونظريات جديدة توجه سياساتهم الخارجية والدفاعية. وينبغي لأوروبا أن تتخلى عن أوهامها بشأن تأثير القوة الناعمة واستعداد القوى الناشئة لتدريب نفسها على التحول إلى «شريكة مسؤولة» في نظام دولي ذي تصميم غربي.
من الواجب أن ننسب الفضل إلى رئيس المجلس الأوروبي هيرمان فان رومبوي في فتح هذه المناقشة الحيوية. في قمة ديسمبر / كانون الأول، اتفق الزعماء الوطنيون على النظر في «التحديات والفرص التي تواجه الاتحاد».
ويتعين على الممثل الأعلى التالي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية أن يستغل هذه الفرصة بشكل كامل.
ومن الواضح أن أمن أوروبا ومصالحها وقيمها تعتمد على ذلك.