العفو عند المقدرة من شيم الرجال الأقوياء، والقلوب التي تعفو وتصفح رغم حزنها أجمل القلوب نقاءً وأكثرها محبة للجميع.. في واحدة من أكثر قصص العفو التي تعكس إنسانية صاحبها ابتغاءً لوجه الله تعالى وبحثاً عما أعده الله من الثواب والنعيم لمن عفا وأصلح، فيما لا يعادله أي مكسب في هذه الدنيا الفانية.. سطر الشيخ سعد بن سلطان بن منير الحضبي السبيعي عضو المجلس البلدي سابقاً في محافظة الخرمة أروع المثل العليا التي يجب أن يتحلى بها المؤمن من الصبر وعمل المعروف لوجه الله تعالى والتي يحتذى بها في الحكمة والصبر في المواقف الصعبة التي تحتاج للحلم ورباطة الجأش.
وذلك عندما عفا عن قاتل ابنه فهد لوجه الله تعالى بعد ساعات من قتله، مسجلاً بذلك موقفاً إنسانياً نبيلاً يجسد العفو بين أبناء المجتمع الواحد، خاصة وأن عفوه جاء بدون مقابل أي مبلغ مادي، أو تدخلات ووجاهات من أحد؛ حرصاً على ترابط أفراد قبيلته وسد ذرائع تفاقم الأمور وعدم فرقتهم، كما تعكس الروح السخية والشهامة التي تظهر أكثر في أصعب الأوقات وأقساها.
فعل الشيخ الحضبي كما فعل من قبله الأحنف بن قيس الذي جمع إلى حلمه الحكمة والعقل والأناة والكرم والزعامة والتواضع.. ففي يوم كان قاعداً بفناء داره، محتبياً بحمائل سيفه يُحدث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف ورجل مقتول، قيل له: «هذا ابن أخيك قتل ابنك». فما حل حبوته، ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه الذي قتل ابنه، وقال أرعبتم الفتى ثم أقبل عليه، وقال: «يا بني: نقصت عددك وأوهنت ركنك وفتت في عضدك وأشمت عدوك وأسأت إلى قومك»، ثم التفت إلى قومه وقال: أين ابني فلان؟ فوقف بين يديه فقال له: «يا بني قم إلى ابن عمك فأطلقه وإلى أخيك فادفنه».
ومثل هذه الصفة وهي الحلم والأناة من أجلَّ الصفات والتي نفتقدها في أيامنا هذه، وقد قال الله في كتابه الكريم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران: 134، ومدلول هذه الآية هو كظم الغيظ في وقت الغضب، ومحاولة إجبار النفس على الهدوء وعدم الخروج عن السيطرة الكاملة، لأن ذلك قد يؤدي إلى عواقب وخيمة لمن يغضب، فالغضب جزء من الجنون؛ يدفع الإنسان لارتكاب أفعال لا يعيها إلا بعد هدوئه، ومن ثَمَّ يندم عليها.
والحلم من أشرف الأخلاق وأنبلها، قال صلى الله عليه وسلم: «من حلم ساد، ومن تفهم ازداد»، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الحليم الحيي، ويبغض الفاحش البذيء»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج «إن فيك خصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة»، رواه مسلم. وقال الحكماء: «غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله».
من يعرف الشيخ سعد الحضبي يدرك أنه أشد الناس سلطاناً على نفسه، وأن هذا العمل النبيل ليس بغريب عليه، لما يلمسه من مبادراته الشخصية للصلح بين أهالي الخرمة والمحافظات المجاورة لها وسعيه الدائم بنفسه فيما يلم الشمل ويقطع دابر المنازعات والمشكلات التي تحدث بين القبائل والأسر. ولقد كان هذا الحادث اختباراً صعباً ومؤلماً له، لكنه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن سعيه في الإصلاح بين الناس وإصلاح ذات البين هو جبلة طبع عليها، وخلق عظيم فطر عليه.
فالمصلح هو ذلك الذي يبذل جهده وماله ويبذل جاهه ليصلح بين المتخاصمين، قلبه من أحسن الناس قلوباً، ونفسه تحب الخير وتشتاق إليه، يبذل ماله ووقته، ويقع في حرج مع هذا ومع الآخر، ويحمل هموم إخوانه ليصلح بينهما.
وكم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال، وفتن شيطانية كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم المصلحين.
إن الاختلاف بين الناس والخصومة فيما بينهم أمر واقع وله دواعٍ منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، واشتباه الأمور والشكوك والأوهام، إلى غير ذلك من الأسباب التي تجتمع حيناً وتفترق في كثير من الأحيان، فينتج عنها الشقاق وتعظم الفتنة ويُجلب الشيطان بخيله ورجله فيفرق بين القريب وقريبه والصاحب وصاحبه.
وهنا إما أن تغرق السفينة، وذلك بسوء التصرّف والتطاول بالكلام وفاحش القول والاعتداء بالأيدي، وإما أن يقيض الله للسفينة مصلحاً محنكاً فيخوض البحر رغم الرياح العاتية ويصل بها بإذن الله إلى شاطئ السلامة بدل أن تلعب بها الرياح يمنة ويسرة، فيحدث الضرر العاجل ومن ثم العقاب يوم اللقاء بالحكم العدل.
إن ديننا دين عظيم يتشوّف إلى الصلح ويسعى له وينادي إليه ويحبّب لعباده درجته، ومن لا يعفو ولا يقبل الصلح ولا يسعى فيه، ليس إلا بشراً قد قسى قلبه، وفسدت بواطنه وخبثت نياته؛ حتى كأنه لا يحب إلا الشر، ولا يسعى إلا في الفساد، ولا يجنح إلا إلى الظلم.
روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: «إصلاح ذات البين»، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شرّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلح بينهم في أُناس معه حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
هذا، وقد لاقى عفو الشيخ سعد الحضبي عن قاتل فلذة كبده أصداء طيبة لدى أعيان البلاد ووجهائها، وعبر محافظ الخرمة الشيخ خالد بن عبدالله بن لؤي عن شكره وتقديره للشيخ الحضبي على بادرته الإنسانية وعفوه عن قاتل ابنه في يوم الحدث نفسه، ودعا الله أن يلهمه الصبر والسلوان وأن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، كما قدم الشيخ علي بن عريج الحضبي والد القاتل وأبناؤه شكرهم وعرفانهم بالجميل الذي لن ينسوه أبداً، وقالوا: إن مبادرة الشيخ سعد بالعفو والصفح عن ابننا في يوم الحدث تبين حكمته وصبره وحرصه على ترابط أفراد قبيلته في الظروف كافة، نسأل الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يضاعف الأجر لوالد القتيل ولأعمامه وأشقائه وأقاربه. فنحن نتقاسم الحزن على فقدانه والجميع يتقبل العزاء فيه - رحمه الله رحمة واسعة .. ونحن في هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك ندعو الله عز وجل أن يتقبل منك ما قدمت من إعفاء لوجه الله تعالى.