لقد حل بأربُعكم وافد مبارك، وضيف كريم، هو شهر رمضان، شهرُ الصيام والقيام، شهر له دون الشهور فضائل، الشهر الذي جاء لترتفع الأرواح من مُوبقاتها، ولتتوب النفوس من تمردها، ولتنخلع القلوب من كبريائها، وليراجع الناس حساباتهم مع أنفسهم، في أيام معدودات، يتجرّد فيها المؤمنون من نوازع الشهوات النفسية، والدوافع الفطرية، والرغبات الإنسانية التي طالما متَّعوا أنفسهم بها.
يتجرَّد المؤمنون من تلك النوازِع جميعها، لا لشيء! إلا رغبةً فيما عند الله عز وجل من الثواب، وفي ذلك تربية روحية للمسلم تجعله يُضاعف الجهود في سبيل استكمال فضائل الروح، وتخليصها من الشهوات المُهلكة، والرَّغائب المُنحطة، وجعلِها عامرةً بحب الله، والتعرف إليه في كل حركة وسكْنة، والإقبالِ على كل ما يُقرب إليه من قول جميل، وفعل حسن، حتى تسمو الروح، وترتفع إلى مدارج الكمال الرباني.
فقوتُ الروح أرواح المعاني
وليس بأن طعمتَ ولا شربتَ
لقد جعل الله جل وعلا للصوم غاية، ووضع له غرضاً ألزم المؤمن أن يسعى لبلوغه، وهذا الغرض النبيل هو: التقوى - تقوى الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة (183).. نعم هذه هي الحكمة من فرض الصوم، وليس الغرضُ إرهاقَ المكلفين بالجوع والعطش، وكَبْتِ الشهوة، وإنما المراد منه: ثمرته الروحية التي تتجلى في سلوك المؤمن أثناء صيامه، ثم بعد انقضاء شهر الصيام، طيلة شهور العام، وهي ما يكتسبه الصائم بفضل الصوم من تقوى القلب، وتهذيب النفس، وإنَّ أجلَّ معاني التقوى: مراقبةُ الحيِّ القيوم! التي تملأ النفس والقلب، وتنتصبُ شاهداً على عظمة الإيمان، وصدقِ التوحيد، وإن الصوم - أيها المسلم - لَيُعِدُّ نفْسَ الصائم لتقوى الله، بترك شهواته الطبيعية، القريبة منه، والعزيزةِ إليه، بحيث، لولا تقوى اللهِ وحسنُ مراقبتِه لما تركها، ولو كان تركُها بأنفس الأثمان، ولكنَّ تقوى اللهِ، جعلته يعي أمانة الله، في حال خفائه عن الناس، واختلائه بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فما أجلَّها من فائدة! في تحقيق جوهر الإيمان، وحصول حقيقة التوحيد، وما أكبرَ الأثر المترتب على ذلك من الخوف والرجاء؛ إذ إن الصائم يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلواته وجَلَواته، وقد حرَّم عليه، أن يتناول شهواته التي جُبل على الميل إليها في خَلوته، فأطاع ربه، وامتثل أمره، خوفاً من عقابه، ورغبة في ثوابه، وإن هذا المعنى مما تتنازع فيه النفس، ويوسوس بضده الشيطان، وتدعو إليه بهارج الدنيا وشهواتها، ومع ذلك تنتصر أيها الصائم بصيامك، ويتجلى إيمانك الصادق، فإن من علامات الإيمان، أن يكره المؤمن ما يُلائمه من شهواته، إذا علم أن الله يكرهها، فتصيرُ لذاته فيما يُرضي مولاه، وإن كان مخالفاً لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقاً لهواه، وهذا من شأنه أن يورث خشيةَ الله، ويُنميَ ملكة المراقبة، ويوقظ القلوب الغافلة {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، ولقد جعل الله لهذه المحامد، وتلك المآثر، التي يتحقق بها للصائمين تجريد الإخلاص، وتعميق المراقبة - جعل لها ثوااً متميزاً، إذ جعل للصائمين باباً خاصاً يدخلون منه، لايَشْركُهم فيه سواهم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يُقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرُهم أغلق فلم يدخل منه أحد).. متفق عليه، فتأمل - أخي المؤمن - هذه الخصوصية، وهذا الإعلان الذي يَظهر فيه الصائمون، ويُعرفون به على رؤوس الأشهاد، والجزاء من جنس العمل.. وتأمّل مناسبة اسم الباب (الريان) للصوم وما يحمله من معاني الرِّي والامتلاء.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (إن الصيام لما كان سراً بين العبد وربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة، علانية للخلق؛ ليشتهر بذلك أهل الصيام، ويُعرفوا بصيامهم بين الناس، جزاءً لإخفائهم الصيام في الدنيا).
إن الصوم مجال رحب لتقرير الإرادة الجازمة، ومجال فسيح يتصل به الإنسان بربه اتصالَ عبدٍ مُنقاد تائب، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمالِ ضَغطِها وثِقَلِها، إيثاراً لما عند الله من الرضا والمتاع، والمسلم إذا أدى الصوم كما ينبغي، وفَقِه الغايات يصبح الصوم عنده سُلماً إلى الترقي الروحي، والتسامي النفسي.. بتربية الإرادة وتقوية العزيمة يُقبل المسلم على عباداته وفرائضه بسرور ونشاط، فيذوق حلاوة الإيمان، ويجد برد اليقين، وانشراح الصدر، ويستشعر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال)، وينطلق من إسار الحاجة المادية إلى آفاق الحرية السامية، فيغدو سيدَ ميوله ورِغابه، لا أسيرَ شهواته ورغائبه.
وقد صمتُ عن لذات دهري كلها
ويومُ لقاكُم ذاك فطرُ صيامي
وهذا الشهر الكريم فرصةٌ عظيمة للتغيير، فمن قصَّر فيما مضى، فليُشمر الآن، ومن ابتلي بمحرم فليُقلع اليوم عنه. ليُكن شهر رمضان لك - أيها المؤمن - ولي بابَ خير، نعبر من خلاله إلى منازل السائرين، ومدارج السالكين، ونجدد العهد مع الله بالتوبة النصوح، والعمل الحسن، ثم ندعُ الدنيا وأوضارها وأوزارها خلف ذلك الباب، ويكونُ الأمر كما قال القاسم بن مُخيمِرة أحد السلف رحمه الله: (ما أغلقت باب داري عليَّ وأنا أفكر في شأن من شؤون الدنيا) أي: لأنه جعل بيته محراباً من محاريب العبادة.
اللهم كما بلغتنا رمضان فتقبله منا، ووفقنا للعمل الصالح الذي يُرضيك عنا، وأعذنا من نَزَغات الشيطان، ونَزَغات النفس والهوى.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وتول أمرنا، واعمر بالصالحات غدونا وآصالنا، ياذا الجلال والإكرام.