من المستحيل أن يتوقّع المديرون بدقّة ما سيحصل في أي قطاع، وأن يعرفوا المنحى التطوري الذي يسلكه هذا الأخير، وأن يدركوا التوجهات التي سيفضّلها العملاء، أو أن يكشفوا طبيعة المنافسين وردود فعلهم.
وتقضي طريقة شائعة للاستجابة إلى هذا الواقع المعقّد بتجاهله، فيعمد المديرون إلى تحليل الوضع ويضعون خطة. ولكنّ العادة شاءت أن يؤدّي تعقيد العالَم إلى تقويض الخطّة لحظة صدورها. وثمّة طريقة ثانية للاستجابة، تقضي بالاستسلام، وبالإعلان أن الوضع بالغ التعقيد ويحول دون اتّخاذ أيّ قرار، فيتمّ بالتالي اعتماد نسخة غير مفيدة لإستراتيجيّة تُعتَبر ناشئة.
وثمّة مقاربة ثالثة، تقضي بالاعتراف بأنّ التنازل عن الخيارات ليس من الردود المنتجة، حتّى لو كان العالم مكاناً يفتقر إلى الاستقرار. وتنظر هذه الطريقة إلى الإستراتيجية على أنها وضع متكرّر لنماذج أوّليّة. وفي هذا السياق، نشير إلى أنّ وضع النماذج الأولية هو أداة تسمح تدريجياً بتحسين مجرى الأحداث وبالحدّ من التكاليف، فتعمل مؤسسة على إنتاج سلسلة نماذج أولية لاختبار فكرة معيّنة، فتحصل على آراء، وتحسّن النموذج الأولي، وتعاود اختباره، وتحصل على مزيد من الآراء، وهكذا دواليك إلى أن تصبح الفكرة جاهزة للإطلاق.
وقد تكون الإجراءات المذكورة أعلاه مفيدة لإنجاح إستراتيجية الصياغة. وبالتالي، يكون تحديد الاحتمالات الإستراتيجية -عبر الإجابة عن خمسة أسئلة أساسية (ما طموحاتنا التي ستحقق نجاحاً؟ أين سننجزها؟ كيف سنفوز؟ ما القدرات التي نحتاج إليها؟ ما الأنظمة الإدارية المطلوبة؟)- بمثابة وضع نموذج أولي. وقد ننظر إلى الإستراتيجية على أنها انتقال من عالَم المفاهيم إلى عالَم الوقائع، باعتماد عملية تقضي بوضع نماذج أولية متكررة.
وفي أوّل نموذج أوّلي، يُطرَح سؤال حول ما يمكن أن يكون صحيحاً لتكون الأجوبة عن هذه الأسئلة الخمسة صحيحة، ومن ثمّ يتمّ اختبار الأجوبة المذكورة من دون إدخال الاستراتيجية فعلياً قيد التنفيذ. وفي مرحلة لاحقة، يصبح من الممكن تعديل الأجوبة وتحسينها. ويكون النموذج الأولي المحسّن خاضعاً مجدداً للاختبار، والتعديل، ومعاودة الاختبار، وهكذا دواليك. ومع كل تكرار، تقترب الاختبارات أكثر فأكثر من عالم الأفعال ومن موعد إدخالها إلى السوق. ومع تلقّيك بيانات جديدة من السوق ومن منافسيك، تأكّد من أنّ عملية وضع النماذج الأولية ستبقى مستمرة. ومن الأفضل ألا تنظر إلى إستراتيجيتك على أنها متحجرة وراسخة، بل إن تعتبرها بكلّ بساطة كأحدث نموذج يتم اختباره في السوق. وبالتالي، ستبقى إستراتيجيتك دوماً ماضية قُدُماً بالتزامن مع بيئتك التنافسية.