أن تبدي آراءك مكتوبة، وتشارك بدورك فاعلاً فإنك حتماً ستجد معجباً مادحاً، ورافضاً قادحاً، وسائلاً ملحاً عن تفسير ما تعنيه.. فكيف بك مع هؤلاء جميعاً؟!!
أجيب بأن الناس ليسوا جميعاً سواء.. فمنهم من يتناول القضايا بفكر رحب، ويرحب بكل طرح فيه جديد ونفع، ومنهم من هو جامد الرؤي.. ثابت الخطا.. ينظر إلى الآخرين بمنظاره هو.. لا بعين الحياة والحقيقة.
وبينهما ثالث.. يقرأ القليل.. ويعلق بالكثير، دون استيعاب لما قد يكون فيما ابتسره، حق دامغ فيما لم يقرأه.
ولو أن كل من يكتب خشي هذا أو ذاك ما أمسك أحد بقلمه، ولا عبر إنسان عن فكره.
** ** **
إن الذاتية هي جوهر الكتابة.. ذاتية في اختيار التوجه الذي يميل إليه الإنسان.. ذاتية في رؤية ما يراه وما يطلع عليه من رؤى الآخرين.. ذاتية في فحص هذه القضايا وتناولها؛ لكن هناك أمور لا يصلح التقويم الذاتي الجازم فيها.. فالقضايا ذات العلاقة بتفسير النصوص الدينية، والشؤون الاجتماعية، والأمور الحياتية.. كلها تتناولها التأويلات الآراء المختلفة.. وتؤثر فيها المواقف المتنوعة.. ولولا ذلك ما كانت الاجتماعات والدراسات.. والندوات والتي ينتج عنها - في الغالب - رؤية مشتركة بعد أن تتضح الصورة والمعنى الحقيقي المقصود.
** ** **
لهذا فعلى من يتصدى للكتابة أن يضع في حسبانه كل هذه الصور من المواقف دون زهو بالمؤيدين المادحين، ودون تأثر أو تراجع بسبب المخالفين، وغير الموافقين؛ إلاّ إذا وجد برهاناً على أن ما خالفوه فيه وما ارتأوه هو أقرب إلى الحقيقة.. وهذا عين الصواب، أخذاً بالحكمة التي تقول: (رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبي). ولهذا كانت أول خطبة للخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عند توليه الخلافة (إن كنت على حق فأعينوني، وإن كنت على باطل فقوموني)، ونحن نردد دائماً (الرجوع إلى الحق فضيلة).
** ** **
ونجد لذلك الاختلاف في تقويم الأعمال، وتقدير المواقف صوراً عبر التاريخ.. سواء في الحكم والقيادة، أو في الشعر والكتابة، أو في الإدارات والوظائف.
ومن منا لا يعجب بالمتنبي.. لكن هناك من هاجموه بعنف، وأثاروا ضده كل فكر.
أخلص من هذا كله إلى أن توافق الناس فكراً، وسلوكاً، وموقفاً من الآخرين أمر مستحيل.
** ** **
ويذكرني هذا بقصة طريفة حكاها لي الصديق الدكتور محمد عبده يماني - رحمه الله - قال: حين كنت وزيراً للإعلام صادف ذات مرة وأنا في طريقي إلى ساحة المطار للمشاركة في استقبال ضيف كبير زائر للمملكة أوقفني أحد الوجهاء قائلاً لي: أهنئكم من الأعماق على أن أختار التليفزيون السعودي المسلسل (الفلاني) لأنه متميز صريح في أهدافه، وإتقان إخراجه، وجيد شخصيات ممثليه.
فشكرت هذا الوجيه، وبعد انتهاء حفل الاستقبال لهذا الضيف الكبير وأنا في طريقي إلى سيارتي أوقفني وجيه آخر: لائماً قادحاً بشدة، وصلت إلى حد قوله (أي حمار اختار هذا المسلسل الرديء، ومن وافق عليه)!!
تناقض غريب في ساعة واحدة من عمل واحد.
وغير ذلك كثير في حياتنا.
** ** **
ويسألني إخواني أحياناً: لماذا لا أشارك في الكتابة عن القضايا السياسية والعلاقات الخارجية.
وكذا الحديث عن واقع سياسات الدول الأخرى.
وجوابي دائماً: إني اتخذت قرارا قد تخفى على الكثيرين أسباب اتخاذه، ولا أعتقد أن حكومات الدول الأخرى ستستمع إلى نصائح أفراد، أو كتاب، أو صحفيين تخالف سياستهم.
وقد أمعنت النظر في قراء الصحف في بلادنا فوجدت أن الشؤون السياسية لا تعني الكثير منهم.
** ** **
إني شديد الإيمان بأن الصحافة بل وسائل الإعلام كافة عليها مسؤولية كبيرة في توجيه الناس إلى الحقائق - التي قد تغيب عن كثير منهم - ذات العلاقة بحياتهم، والتأكيد على القيم التي يقوم عليها مجتمعهم.
إن ما أكتبه هو توجه أرى فيه أداء لواجب علي تجاه ديننا، ووطننا، ومجتمعنا.. التوجيه إلى ما قد يكون مبهماً عند بعض الناس من حولنا من المفاهيم الكبرى للقيم، والمثل العليا؛ حرصاً على الصواب والأخذ به، وليس جزماً بأن كل ما أورده يتوافق تماماً مع الحقائق.
** ** **
إن الإصلاح الاجتماعي، والارتقاء السلوكي، والنقاء الإنساني في العلاقات هو سبيل إلى سعادة الإنسان في حياته، في أسرته، بين مجتمعه والآخرين، بجانب ما هو توجيه إلى الحقائق الكبرى والسلوكيات العليا التي هي جوهر عقيدتنا الإسلامية الراقية النبيلة، وكل ذلك هو ما وراء توجهي الذي أشير إليه في كتاباتي فعسى أن يوفقني الله إلى تحقيق مرادي.
** ** **
وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأَمِدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.