كنت قد قدمت هذا الموضوع للمشاركة في الندوة التي أقامتها الجمعية التاريخية عن تاريخ المدينة المنورة ولكن الظروف منعتني من إلقائها في الندوة، وقد استفسر بعض الباحثين عنها وطلبوا نشرها، ولذلك أقدمها هنا في صحيفة الجزيرة لعل القارئ الكريم يجد فيها ما يفيده. من أشهر الأسر التي حكمت المدينة المنورة أسرة آل مهنا؛ استمرت إمارتهم لأكثر من ستة قرون، وكما هو الحال في الكثير من الدول التي حكمت أرجاء الجزيرة العربية لم تأخذ هذه الإمارة حقها من البحث؛ لذلك نجد الكثير من الباحثين المعاصرين يقعون في أخطاء فادحة عند تطرقهم لتاريخها، وحتى بعض المؤرخين المتقدمين. من خلال هذا المقال نستعرض بشكل موجز بعض ما توفره من معلومات عن تاريخ آل مهنا في المدينة المنورة، وخاصة النقاط الخلافية كنشأة الإمارة، وتاريخ سقوطها.
نسب آل مهنا
تجمع المصادر المختلفة على نسب مهنا الذي تنسب له الإمارة، حيث تنسب إلى: مهنا الأصغر بن حسين بن مهنا الأكبر بن داود بن القاسم بن عبيدالله بن طاهر بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيدالله بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، يخرج عن هذا الإجماع ابن سعيد ومن تبعه كابن خلدون، إلا أن اتفاق نسابة الطالبية ومؤرخي الحجاز على انتسابهم إلى عبيدالله الأعرج من بني حسين يجعل فرضية ابن سعيد الأندلسي ومن تبعه من سكان مناطق بعيدة لا قيمة له.
إمارة بنو حسين في المدينة المنورة قبل تولي مهنا
استقرت ذرية زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في المدينة المنورة في أيام يزيد بن معاوية، فكانت الرئاسة في المدينة ما بين بني حسين وبني جعفر بن أبي طالب، ثم غلب بنو حسين بني جعفر وأخرجوهم من المدينة فسكنوا ما بين مكة والمدينة إلى أن أجلتهم قبيلة حرب. من غير الواضح الأسباب التي جعلت المؤرخين ينسبون الإمارة إلى مهنا الأصغر مع أن إمارة بني حسين كانت في أجداده فمهنا الأصغر من ذرية أمراء حكموا المدينة ولم تنقطع إمارتهم، منذ غلب جده الأمير أحمد القاسم بن عبيدالله ابن عمه الحسن بن طاهر الحسيني؛ وقيل أن الذي غلب ابنه داود. بعد أن استقرت الإمارة في ذرية مهنا الأصغر، كان هناك تنافس ما بين قسمين من ذريته؛ الهواشم نسبة إلى هاشم بن قاسم بن مهنا الأصغر، والجمامزة نسبة إلى الأمير جماز بن قاسم بن مهنا الأصغر، إلى أن انحصرت الإمارة في الجمامزة.
علاقات آل مهنا السياسية
إن المتتبع لتاريخ إمارة المهاينة يلاحظ حرصهم على توثيق علاقتهم بالحكام في الدول الإسلامية الكبرى، وهي السياسة التي اتبعها أجدادهم من بني حسين منذ نشأة الإمارة، حيث كانت لبني حسين علاقات وثيقة بالحكام خاصة في مصر والشام، وعلى ما يبدو هذه السياسة تفرضها أهمية بلاد الحرمين الدينية وشح الموارد الاقتصادية المحلية، ومن اللافت أن علاقات آل مهنا السياسية كانت مميزة حتى مع حكام الدول الإسلامية البعيدة في الهند وبلاد فارس وغيرها من أرجاء العالم الإسلامي، وكانت وفود بني حسين لا تنقطع عن دول العالم الإسلامي المختلفة وبعضهم حصل على إقطاعات في العراق والهند.
كان المهاينة في الغالب ينجحون في تكوين علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية؛ فكانت لهم علاقات مع المغول والمماليك، وحتى عندما انظمّت الحجاز للدولة العثمانية احتفظوا بعلاقات قوية بالدولة الصفوية العدو اللدود للعثمانيين؛ وكانوا يحصلون منهم على إقطاعات كبيرة في فارس. أما علاقة المهاينة بالقوى المحلية فكان هناك صراع دائم مع حكام مكة آل الجون، إلى أن أصبحت المدينة المنورة تتبع حكام مكة.
من الواضح أن المهاينة كانوا حريصين على توثيق علاقتهم بالبادية، ليس فقط في الحجاز بل حتى في نجد، فصاهر آل مهنا قبائل البادية منذ وقت مبكر، ونزلوا تدريجياً معهم حتى أنهم كانوا في القرن الحادي عشر ينزلون جميعاً في البادية إلا من يتولى الإمارة، وكانت قبائل البادية تتدخل في الشئون الداخلية للإمارة والشواهد كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها.
ازدهار الحياة العلمية في عهد إمارة المهاينة
لعل من أهم أسباب استمرار حكم آل مهنا للمنطقة اهتمامهم بالجانب العلمي، فلقد شهدت المدينة المنورة ازدهاراً علمياً كبيراً، باستثناء بداية حكمهم في القرن السادس وحتى نهاية القرن السابع الهجري عندما كان القضاة وإمامة الحرم منحصرة في أسرتي آل نميلة والقيشاني، حيث شهدت المدينة المنورة تنوعاً فقهياً؛ فكان هناك فقهاء من جميع المذاهب، ومما يدل على ازدهار الحياة العلمية أصدر العلماء الذين سكنوا المدينة مؤلفات اعتبر بعضها من أهم كتب التراث الإسلامي وأول ما يبرز للباحث في تاريخ المدينة الإنتاج العلمي للعالم الشهير الفيروز أبادي، ويعتبر كتابه القاموس المحيط من أهم كتب التراث الإسلامي، أيضاً هناك ابن فرحون من علماء المغرب المشهورين الذين سكنوا في المدينة، والعالم الكبير السمهودي الذي مشى على خطوات الفيروز أبادي، وألف 38 عنوانا، وهناك السخاوي صاحب كتاب الضوء اللامع، ولقد لعب هؤلاء العلماء دوراً أيضاً في نشر مذاهبهم في الجزيرة العربية ولم ينحصر دورهم في المدينة المنورة، فلقد كان على سبيل المثال ابن جبر يطلب من السمهودي أن يرسل معه العلماء إلى الأحساء.
ولا يعبّر ذلك عن حياة علمية نشطة في الحجاز بشكل عام، فقد شهدت الحياة العلمية في مكة المكرمة، حالة من الركود إلى القرن التاسع الهجري، وانحصر الإنتاج العلمي في مكة المكرمة في الغالب على العلماء المحليين.
إمارة آل مهنا في العهد العثماني يذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن إمارة آل مهنا في العصر العثماني أصبحت شرفية وأن السلطة الفعلية أصبحت بيد أقرباء شريف مكة، وشيخ الحرم ورئيس الحامية العسكرية والقضاة، إلا أن المصادر التاريخية العثمانية والمحلية تخالف هذا الاستنتاج، حيث يذكر يلماز أن الحكم العثماني للحجاز كان على أساس تعاون ولاة وأمراء لواء العثمانية في الحجاز مع أشراف وأمراء مكة والمدينة، بتناسق تام.لقد كانت أمراء آل مهنا يتبعون أمير مكة في العهد العثماني ولكن ذلك لا يعني أنهم فقدوا نفوذهم السياسي، فنجد على سبيل المثال الأمير ميزان بن علي النعيري الحسيني أمير المدينة المنورة كان من المقربين من أمير الحجاز الحسين بن أبي رميثة، وكان أشراف مكة يرسلون أمراء المدينة ممثلين عنهم إلى سلاطين بني عثمان؛ فمنهم الأمير مرتضي بن فنخة الذي أرسله الشريف زيد إلى السلطان العثماني بهدايا عندما فتح بغداد وبقي في إسطنبول إلى حين مات، ويسرد ابن شدقم المعاصر العديد من الوقعات التي كان يقوم بها بنو حسين مع قبائل البادية، ومناطق بعيدة تصل إلى جبل شمر، بل كانوا يتدخلون في خلافات أشراف مكة ويقفون مع طرف ضد الآخر، كما وقف الأمير صالح بن حماد مع الشريف زيد عندما حاول سنجق جدة ومعه عبدالعزيز أبي نمي أخذ مكة، مما يدل على أن الدور السياسي لأمراء آل مهنا لم ينتهِ في العهد العثماني الأول.
سقوط إمارة المهاينة
إن تاريخ سقوط إمارة المهاينة في المدينة المنورة هو محل جدل بين الباحثين المعاصرين، خاصة بعد وفاة مؤرخ المدينة ابن شدقم الحسيني في القرن الثاني عشر، فلا يعرف هل استمرت بيد فرع آل نعير من المهاينة الذين يعرفون بالنعيري، أو انتقلت إلى فرع آخر من آل مهنا أو سقطت؟ أهم مصدر لتاريخ المدينة وخاصة أنساب الأسر في القرن الثاني عشر هو كتاب تحفة المحبين للأنصاري، واللافت النظر عدم تطرقه لنسب وتاريخ آل مهنا واكتفى بإشارات بسيطة، إن القارئ لكتاب الأنصاري سوف يلاحظ أن غالبية الأسر المذكورة في الكتاب هم من المهاجرين الجدد إلى المدينة المنورة من أقطار بعيدة من المغرب ومصر والهند وغيرها من أقطار العالم الإسلامي أي أن المدينة المنورة قد خلت من سكانها القدماء لسبب غير معروف، والأرجح أن يكون من جور الحكام العثمانيين، حيث ذكر الأنصاري طرفاً من جورهم وظلمهم لأهل المدينة. يبدو أن العثمانيين أبعدوا آل مهنا وبني حسين بشكل عام عن السلطة في النصف الأول من القرن الثاني عشر، حيث أصبح شيخ الحرم المعين من قبل السلطة العثمانية يتولى أيضاً إمارة المدينة، كما حدث لشاهين أحمد أغا الذي كان أميراً سنة 1114هـ، إلا أن الصدمات التي تسبب بها المعينون من قبل الدولة العثمانية جعلتهم على ما يبدو يضطرون لإعادة الإمارة لبني حسين، فقد نقل الأستاذ فايز البدارني عن وثائق محكمة المدينة أسماء بعض أمراء المدينة، كالسيد محمد بن سلطان سنة 1133هـ، والسيد عبدالعزيز بن لاحم بتاريخ 1144هـ، والسيد أحمد بن سلطان بتاريخ 1187هـ؛ بل إن الشريف مسعود طلب موافقة بني حسين على تعيين السيد جعفر بن علي أميراً للمدينة، ولقب السيد الذي يسبق اسم هؤلاء الأمراء يدل على انتمائهم لبني حسين، ومن غير الواضح ما إذا كانت إماراتهم شرفية أم حقيقية؟.. وهل ينتمون إلى آل مهنا أم إلى فروع أخرى من بني حسين؟.. هذه الأسئلة والكثير غيرها من الجوانب الغامضة في تاريخ المدينة المنورة لم تخضع لبحث متعمق، ولن يستطيع بحث مختصر كما هو حال هذا المقال كشف هذا الغموض، فالهدف فقط تسليط الضوء على أحد أبرز الإمارات العربية التي لعبت دوراً مهماً في الحياة السياسية في الجزيرة العربية.
** ** **
الهوامش:
1- تحفة الأزهار وزلال الأنهار، مج2، ص 224- 387-389-428.
2- أمراء المدينة في النصف الأول من العهد العثماني استدراكات على كتاب (أمراء المدينة المنورة).
3- تاريخ الدولة العثمانية، ص 814.
4- تحفة لباب الألباب، ص 156.
5- وفاء الوفاء بأخبار المصطفى، طبعة لندن، ج1، ص 42.
6- درر العقود الفريدة، ج1، ص 561.
7- تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب.
8- إمارة المدينة المنورة في العهد العثماني الأول.
9- التاريخ الشامل للمدينة المنورة،ج2، ص 332.
10- المدينة المنورة في العصر المملوكي، ص 192.
11- التحفة اللطيفة، ج1، ص 56.