لا ناقة للإبل في كورونا ولا جمل !!!
بداية يجب أن نقر بأن «السؤال» هو أول طرق البحث عن المجهول، فهذا أيضاً هو أول الطريق لتحليل المحايد، فلا توجد إجابات مُسبقة ولا ضغوط للوصول إلى نتائج وهمية. فما أن يأتي الطفل إلى عالمنا ويتعلم وسيلة التواصل معنا حتى يمطرنا بوابل من الأسئلة التي لا تنتهي، وما ذلك إلا طريقته في استكشاف عالمنا الذي لا يزال مجهولاً لديه. يسأل الطفل والديه: من أين أتيت؟ فيقع في روعهما الرهبة من إطلاع طفل صغير على إجابة حقيقية، صريحة، وواضحة لهكذا سؤال، فلا يجدان بُدّاً من تحوير الحقيقة. لكن الحقيقة - وإن كانت نسبية أو مغلوطة - فهي موجودة بانتظار من يبحث عنها، ولن يعجز طفل لحوح سؤول عن الوصول إليها، وسيعرف عاجلاً أو آجلاً كيف جاء إلى هذه الدنيا سواءً من الشارع أو المدرسة أو الإنترنت.
(كورونا) .. وتبادل المعلومات
هذا وللأسف هو جزء من واقعنا المرير والذي أيضاً يحكي شطراً حول تعاملنا وتعاطينا المغلوط لكثير من الأحداث والوقائع المجهولة التي نتعرض لها في حياتنا اليومية، كما يحصل هذه الأيام بـ «مرض الكورونا». فهذا التصرف لا مبرر له في عصر توفرت فيه المعلومات بشكل غير مسبوق، فإن خير وسيلة لتتقي شر مرض ما هي بمعرفتك ما يكفي عنه، ولأن الإنسان عدو ما يجهل، فإن سبيله لإنهاء حالة العداء هذه هي بالمزيد من المعرفة. لكن المشكلة تكمن في طريقة استقاء المعلومة والتعاطي معها؛ فكلنا يعلم أن المجهول هو أسوأ ما يواجهه الإنسان في حياته، فهو قد لا يعرف عنه سوى اسمه ولكنه في نفس الوقت قد يدرك خطورته وما إذا كان قادرا على إلحاق الضرر به أم لا. وبسبب هذا الوضع الذي ألَمّ بهذه الأمة من هذا المرض هذه الأيام وكثرة الشائعات حوله، ارتأيت أن أدلو بدلوي بصفتي طبيب بيطري، ومحاضر وباحث بقسم الإنتاج الحيواني-كلية علوم الأغذية والزراعة-جامعة الملك سعود، وعضو في الجمعية السعودية لدراسات الإبل؛ إظهاراً لأهمية تبادل المعلومات عن حقيقة هذا المرض ولتصحيح بعض المفاهيم، ولإلقاء الضوء على بعض الإجراءات المُتخذة للحد من انتشاره من قبل الجهات المسؤولة، بالإضافة لاقتراح علاج لهذه المشكلة وهو الأهم.
أول اكتشاف 1960
مرض الكورونا هو مرض فيروسي تنفسي يصيب الإنسان كما قد يصيب الحيوان، وظهور عترات فيروسية جديدة بهذه العائلة هو عائد لعدة عوامل أبرزها قدرة الحمض النووي بهذه الفيروسات على التغير المستمر في نشاطها وضراوتها. فهذه الفيروسات قد تتكيف في ظروف غير الظروف الاعتيادية لنموها مما قد يؤدى إلى ظهور عترة تتسم بخصائص جديدة تتمثل في قدرتها على إصابة عائل جديد. ومن المعروف أن فيروسات الكورونا التي أصابت الانسان ليست حديثة الظهور، بل قد تم عزل أول عترتين للكورونا في 1960 من الجيوب الأنفية لمرضى كانوا يعانون من نزلات البرد. ثم بحلول عام 2003، تفشت متلازمة العدوى التنفسية الحادة «سارس» (SARS-COV) مما أضاف العترة الثالثة والتي سجلت 8422 حالة إصابة، منها 916 وفيات حول العالم بنسبة وفيات تقترب من 10%. وقد ثبت علمياً وقتها دور الخفافيش في دورة انتقال هذا الفيروس. ثم بنهاية عام 2005، أفاد الباحثون عن إيجاد عترتين مختلفتين عن الأنواع المعروفة سابقاً والتي عزلت من مرضى كانوا يعانون من التهاب رئوي. وفي سبتمبر 2012، تم التعرف على عترة جديدة عن طريق الدكتور المصري محمد علي زكريا، المتخصص في علم الفيروسات، بعدما نجح في عزل الفيروس من رجل توفي في أعقاب ضيق حاد في التنفس وفشل كلوي. حيث دلت النتائج الأولية وقتها على تشابه هذه العترة إلى حد ما بفيروس السارس ولكن مع وجود عدد من الاختلافات؛ كانخفاض نسبة انتشاره بين الناس وارتفاع نسبة وفياته خصوصاً بين كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة كالفشل العضوي وضعف المناعة والممارسين الصحيين، وسميت هذه العترة رسميا فيما بعد بفيروس كورونا الشرق الأوسط «ميرس» (MERS-COV). أما أعراض الإصابة بهذا الفيروس فهي تتمثل في ارتفاع درجة الحرارة لأكثر من 38 درجة مئوية ورشح وسعال وضيق في التنفس واحتقان بالحلق وآلام في الجسم والمفاصل. وبحسب آخر إحصائيات منظمة الصحة العالمية؛ فقد تم تشخيص 639 حالة مؤكدة في العالم بفيروس كورونا الشرق الأوسط توفي منهم 196 حالة، وتعتبر المملكة العربية السعودية الأكثر إصابة بهذا الفيروس بتشخيص 534 حالة توفي منهم 173 حالة بنسبة وفيات تزيد عن 30%. ثم تأتي بقية الدول الأخرى التي ثبت وجود حالات فيها وهي الإمارات، الأردن، قطر، الكويت، هولاندا، فرنسا، بريطانيا، اليونان، اليمن، إيطاليا، ماليزيا، عمان، تونس، مصر، لبنان، الولايات المتحدة وألمانيا. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الوفيات إلا أن منظمة الصحة العالمية صرحت بأن هذا المرض لا يستلزم إعلان حالة الطوارئ في الفترة الراهنة، وأن هذا الفيروس الذي ينتقل عبر الاختلاط المباشر بالمصابين والرذاذ المتطاير منهم أثناء السعال أو العطاس أو لمس أدواتهم أو الأسطح الملوثة؛ ضعيفٌ للغاية ويبقى على قيد الحياة فقط لمدة 24 ساعة خارج جسم الإنسان، ويموت بالمعقمات ومواد التنظيف العادية.
الافتقار للمعلومات
أيْ نعم؛ هذا هو المجهول الذي نعيش حالياً فصول حقيقته الغائبة. وعلى الرغم من اكتشافه منذ سنتين، فإننا وللأسف لا نزال نفتقر لمعرفة الكثير عنه ولا نعرف له تجارب سابقة خرج منها منهزمًا، كما لا يتوفر لدينا لقاح لمواجهته. صحيح أن هذا المرض ليس أول مرض فيروسي ظهـر بالمملكة العربية السعودية؛ فلقد مر بنا ومنذ العام 2001 عدة أمراض فيروسية مثل حمى الوادي المتصدع، وإنفلونزا الطيور ثم الخنازير وغيرها، ونحن بحمد الله بعيدون عن تحول هذا المرض إلى وباء، إلى الآن، كما أكدته منظمات الفاو ومنظمة الصحة العالمية. غير أن الاستجابة لحدث كهذا لا تزال أبطأ مما ينبغي، وبدلاً من اتخاذ خطوات مدروسة وفعالة للاحتواء ومواجهة هذا الخطر منذ بداياته، ونقل الحقائق بشفافية إلى المواطنين والمقيمين، وتحديد طرق وكيفية الإصابة بهذا الفيروس الجديد؛ تصرفت الجهات المسؤولة في الدولة وللأسف بارتباك غير مبرر إزاء تفشي هذا المرض، بل واتخذت إجراءات جل هدفها التكتم على المرض ومحاولة وضع حلول تم إعدادها على عجل؛ فحدث ما حدث خاصةً داخل المستشفيات نفسها وبين العاملين فيها.
الخفافيش .. ورجل قضى في بيشة
أما في إطار البحث عن ماهية مصادر هذا الفيروس، فلقد تم بدايةً دراسة دور الكائنات المحيطة بالإنسان وحيواناته بدقة مثل الخفافيش كونها قد ثبت علمياً دورها في انتقال فيروس السارس، وبيَّنت النتائج المعملية الأولية لعدد من العينات جمعت من منطقة بيشة غرب المملكة الحصول على جزء من مورث لفيروس عزل من خفافيش كان مشابهاً تماماً للفيروس الذي عزل من البشر. وبما أن هذه المنطقة قريبة من مسكن مواطن أصيب وتوفي بسبب المرض، وكان يملك عدداً من الإبل فقد بدأت الشكوك تدور حول دور الإبل بنقل المرض للبشر. ومن ثم بدأ الباحثون في دراسة عينات مجموعة حديثاً من الإبل وعينات أخرى مؤرشفة من عام 1992 وحتى عام 2010، واتضح عن طريق الفحص المصلي أن نسبة عالية من عينات الإبل تحتوي على أجسام مضادة للفيروس، كما وبيَّنت النتائج تشابه مقاطع من مورث الفيروس المعزول من الإنسان مع المعزول من الإبل عن طريق اختبارات سلسلة تفاعل البلمرة. هنا تجدر الإشارة بأن العثور على أجسام مضادة لهذا الفيروس في جسم الإبل وتشابه مقاطع من مورث فيروس كورونا الشرق الأوسط المعزول من الإنسان مع المعزول من الإبل لا يمكن اعتبارهما دليلاً قطعياً بأن الإبل هي مصدر العدوى للإنسان بل هو مجرد «استنباط» لا أكثر. فالإبل كغيرها من الكائنات الأخرى قد تحمل فيروس كورونا خاصاً بها. بل وربما كان الإنسان هو سبب ومصدر وناقل هذا الفيروس للإبل لكنها قاومت بفضل مناعتها لا العكس. كما أن هناك احتمالاً بعدم إمكانية انتقال فيروس الإبل إلى الإنسان كما حدث مع القطط في أمريكا !!! فنحن متبرمجون منذ الأزل على مناقشة الأبحاث والدراسات والحكم على نتائجها من قراءة عناوينها فقط دون الخوض في محتواها وتحليلنا لنتائجها، وبعد ذلك نستغرب عدم تمكننا من الوصول إلى دليل واضح وجلي!
لا تزال موضع اتهام
ولا تزال الإبل موضع اتهام، إلا أن علينا أن نقطع شوطاً بعيداً قبل إعلان حكمنا بالإدانة؛ فإلى الآن لم تثبت السببية علمياً بأن الأبل هي المصدر، والأيام حبلى لا ندري ما تلد. ولكن دليل براءة الإبل في نظر أعضاء الجمعية السعودية لدراسات الإبل ونظر المراقبين للواقع العملي لطبيعة انتشار المرض، فهو ببساطة أن أغلب الإصابات المرصودة هي بين كبار السن ولا صلة لهم بالإبل، بل وقد تم التأكد بأن الفيروس انتقل لهم بشكل أفقي من مصابين آخرين. علاوة على أن آلاف المتعاملين مع الإبل من رعاة ومربين وملاك وباحثين يحتكون معها يومياً وتلامس أجسامهم إفرازاتها ويتناولون حليبها ولحومها مباشرةً دون أن يصابوا. فلو كانت الإبل هي مصدر الفيروس لرأينا طوابير المصابين منهم وفي كافة مناطق المملكة حيث تنتشر حظائر الإبل!!! وحتى الآن لم يتم عزل هذا الفيروس من حالات مرضية تنفسية واضحة في الإبل، أو حصول حالة وفاة واحدة لموت جمل أو ناقة بسببه مثلما حدث مع البقر بعد أزمة مرض جنون البقر أو الحمى القلاعية. فوجود أي من هذه الإثباتات تستدعي المطالبة بإعدام الإبل المخالطة لها. وحتى لو حدث ذلك فإنه يلزم عمل ما يعرف بـ «فرضية كوخ» حيث يتم حقن الفيروس المعزول في إبل قابلة للإصابة وأن تظهر عليها أعراض المرض ومن ثم يتم عزل الفيروس مرة أخرى. فيتضح من كل ما سبق - وكما أكدته منظمتا الفاو والصحة العالميتان قبل أيام- أن الإبل حتى الآن لا علاقة لها بنقل المرض للإنسان؛ إذ إنها تصاب بالفيروس دون حدوث مرض. فالذين يتهمون الإبل لا يعرفون عنها إلا كما نعرف نحن عن الباندا. فالمخالطة لا تبين السببية، لأن ما ذكرته البحوث العلمية هو استنباط وأقوى درجاته العلمية هو افتراض حدوث انتقال للفيروس بين هذين الكائنين.
دعوات مقاطعة .. لماذا؟
كل هذا يدفعني لأستغرب دعوات عدد من الجهات المسؤولة بعدم أكل لحم الإبل أو تناول حليبها، دون وضع أية معايير أو تقديم دليل واضح من واقع الأرقام ونسبة المصابين من الحالات الجديدة التي تظهر يومياً من الإبل والمخالطين لها من ملاكها ورعاتها والبائعين لها ولمنتجاتها. لماذا التسابق بالإدلاء بالتصريحات المغلوطة مهما كانت العواقب حتى ولو كانت نتائجها أشد فتكا من هذا المجهول الذي نعيش حالياً فصول روايته؟ كما أثار هذا السلوك فضولي لمعرفة إن كان لهذا المجهول بُعدٌ «اجتماعيٌ-اقتصادي»؟ لماذا الحديث عن الإبل وربطها بهذا المرض وهدر هذه الثروة الوطنية والدعوة للاعتماد أكثر على اللحوم الأخرى المستوردة، من دون أن نقرا تلك القرارت قراءة مستوفية أو أن نبحث في الموضوع من جميع جوانبه كما علق عليه الدكتور سعيد باسماعيل مؤسس الجمعية السعودية لدراسات الإبل والمتخصص فيها. لماذا تتخبط هذه الجهات دون دراسة الواقع أو الرجوع للمختصين في كليات الزراعة وكليات البيطرة والمراكز البحثية في الجامعات السعودية وتتعلق بأي خيط وكأن كل من توفي هو من مرتادي مقهى معين أو ممن شرب حليب الإبل أو أكل من لحمها؟
يستحق التحليل والمعرفة
الحقيقة، إن موضوع هذا المرض في المملكة يستحق التحليل لمعرفة الدروس المستفادة للدارسين والمهتمين في فهم ديناميكية النظم. كما ذكرت سابقا فهذا المرض بصورته الحالية تم اكتشافه منذ سنتين تقريباً. هذه المدة ليست بالقليلة، أي أن الجهات المسؤولة كانت تملك الوقت الكافي لوقف الضرر المتفشي بالدراسة والبحث لإنتاج لقاح يشفي ويوقف الشائعات. ومع أن قابلية انتشار المرض أقل نسبيا من غيره؛ غير أن أعداد المصابين به قد تنامت خلال الأشهر الماضية، والصدمة أن العدوى انتشرت في الغالب بين العاملين في القطاع الصحي وليس عبر حظائر الإبل؛ الأمر الذي أثار إحساس المجتمع بوجود شيء من التراخي، بل وأثبت ضعف تطبيق إجراءات الوقاية التي تتبعها المستشفيات، ودل أيضاً على أن تلك الجهات لا تأخذ خطورة هذا الفيروس على محمل الجد، بل في الحقيقة لا تعرف تماماً حجم المشكلة ذاتها. فنحن نتساءل: لماذا الهروب من المسؤولية؟ فعجز هذه الجهات عن متابعة تطبيق الإجراءات أدى إلى حاجتها للاحتكار والمركزية عند التعامل مع هذا الفيروس كما رأينا بالأيام السابقة، وهي بذلك عالجت خطأ بآخر أكبر تأثيرا وخطورة. كما ولو نظرنا إلى غرفة العمليات واللجان العلمية المشكلة في كل المناطق لمعرفة طبيعة المرض وطرق الوقاية منه فسنجد أنّها لا تمثّل التخصصات المطلوبة، بل تفتقر للتمثيل المجتمعي المتمثل بوجوب حضور كل من وزارة الصحة والزراعة والداخلية والبلدية والجامعات ومراكز البحوث البيطرية، والذي يؤدي تبعاً إلى التعامل مع هذا المرض بصورة فردية وليس مجتمعية. علاوة على كل هذا، لماذا لم يكن ثمة فرصة لسماع وجهة نظر رعاة ومربين وملاك الإبل أو التنسيق معهم؟ هل هو لغياب أو ضعف مؤسسات المجتمع المدني التي تمثلهم أو لأن أهمية أي حيوان تتراجع إلى الصفر في حالة تهدد الجنس البشري؟ هل لهذه الأسباب اندفع بعضهم إلى تصوير أنفسهم وهم يقبلون جمالهم وحواشيهم ومن ثم نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي وهي الظاهرة التي نشرتها مجلة واشنطن بوست تحت عنوان: لماذا يقبل السعوديون جمالهم؟