ليست لي تجارب تُذكر أو روايات تُحكى مع معالي الوزير الدكتور عبد العزيز الخويطر - رحمه الله - سوى لقاءاتي به في مناسبات اجتماعية متعددة بين أفراح وأتراح وواجبات ودعوات، كان يحرص على أدائها ويشد الانتباه فيها بهدوئه وسمته وتواضعه، ويشنف الآذان عندما يتحدث معلقاً أو مداخلاً.
لذا شعرت بغصة وألم حين بلغني نبأ وفاته - رفع الله درجته - كيف لا والوطن يفقد ابناً من أبنائه البررة، الوزير المعتبر والمستشار المؤتمن والأديب الأريب والمؤرخ الواعي والمثقف النشط ورجل الدولة بحق.
ثكل النساء من البنين وإنما
ثكل الديار بفقدها العلماء
وفور إعلان النبأ ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات والدعوات، كما تصدَّر نبأ وفاته نشرات الأخبار وعناوين الصحف، ونشرت الصحف عدداً من مقالات الرثاء في فقيد الوطن.. تذكرت وأنا أقرأ كل ذلك ما كنت سطّرته لأحد الأعزاء: «هل نحن لا نشعر بالقيمة الحقيقية للأشخاص إلا حين يرحلون أبداً أو مؤقتاً، ولا نحس بقيمة الأشياء إلا حين نفتقدها، ولا نوفي من يستحق الوفاء حقه ونشعره بذلك إلا حين يغادرنا.. أم أن الإشكالية في هذا الأمر أن هناك من يرى - وقد أكون أحدهم - أن الشعور في مثل هذه المواقف محله القلب والتلفظ به قد يفهم نفاقاً وتزلفاً.
وعند قراءتي لمقالة الشيخ أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري التي رثى فيها الدكتور الخويطر المنشورة في جريدة الجزيرة يوم الجمعة 01 شعبان 1435هـ الموافق 30/05/2014م (العدد رقم 15219) وقال فيها واصفاً الخويطر: «... لا يحمل كثير هَم من التلهف على مزيد من الدنيا.. وأضاف.. توالت عليَّ محاسن سيرته إلى أن كان في يقيني مطابقةُ سِرِّه عَلَنَه»، تذكرت أنه عندما أصدر الفقيد - رحمه الله - موسوعتيه التراثيتين (أي بني) و (إطلالة على التراث) لفت نظري لهما الصديق المؤرخ معالي الدكتور فهد السماري، وتقدمنا (السماري وأنا) بفكرة تحويلهما إلى عمل تلفازي درامي، ورحب الدكتور الخويطر - غفر الله له - بالفكرة ولم يشترط شيئاً سوى أن ينتج العمل بالشكل الملائم والذي يخدم فكرة وأهداف المؤلَفَين».
أقول: تذكرت ما ذكره الشيخ الظاهري عن الدكتور الخويطر وزهده حينما قابلته وتحدثت معه عن فكرة البرنامج فشجع الفكرة وأثنى على دور الشباب وأرسل خطاباً بموافقته دون قيد أو شرط. لك الله يا عبد العزيز الخويطر تركتَ لنا إرثاً عظيماً يؤطرُ بيد أن معرفتي الحقيقية بفكر ومنهج الخويطر العلمي وأسلوبه الأدبي تعمقت عند قراءتي لتأريخه المعنون (وسم على أديم الزمن)، والذي كان يزودني سيدي الوالد - حفظه الله - بأجزائه فور صدورها.. «الوسم» الذي لا أعتبره سيرة ذاتية لمعاليه ولا تاريخاً شخصياً فقط بل تأريخ مرحلة تربو على الستين عاماً أرّخ فيها الدكتور الخويطر لنفسه ومحيطه ومجتمعه وحكومته وما يتعلق بهم من أحداث وتحولات، ويحسب له - رحمه الله - أنه اختط منهجاً علمياً في تأريخه، حيث يقول في مقدمة الجزء العشرين: «والسير في هذا الجزء حكمه المنهج الذي سرت عليه في الأجزاء السابقة، وهو منهج أبعد عن التكلف في الصور التي يرسمها، والأفكار التي يدلي بها، والحوادث التي يصفها، واللغة التي يتحدث بها، فالتكلف آفة تحبط الأفكار، وتوهن الآراء، وتضعف الثقة في الكاتب وما يكتب.
.... إن الكاتب الأمين الصادق هو من يحفظ للتاريخ حقه، ليكون صورة واضحة لزمنه، وأساساً يبني عليه ما سوف ينطلق بعده، ومنه، من كتابات تاريخ يكون نوراً ساطعاً يكشف الحقائق، ويُري ما يكمن خلفها، ويكون أداة تساعد على التحليل، والخروج بنتائج تَسرُّ عين الحقيقة، وتُبهج قلبها، وتُطرب نفسها.
إن ما يُكتب اليوم بأمانة لا يُقدر بثمن للحاضر وللمستقبل، وقد يوفق الكاتب المخلص أن يضع قواعد في ثنايا المنهج الذي اختطه، والأسلوب الذي اختاره، تُغري غيره بالاقتداء به عن اقتناع، ومتابعته عن تقدير، ويتسلسل هذا النهج مخترقاً العصور». ورغم أن ذلك أزعج بعض القراء والمثقفين والمحللين الذين رأوا أنه يغرق في بعض التفاصيل ولا يقدم ما يتطلعون إليه من معلومات، خصوصاً ما يتعلق بعمله الحكومي والاجتماعات واللقاءات التي حضرها والرسائل التي حملها أو حُمّلها لقادة الدول أو الوفود التي رأسها أو شارك في عضويتها أو اللجان التي أدارها، فهو يوضح في مقدمة الجزء الثالث والعشرين «.... رغم أني تجنبت الدخول في تفاصيل مهمة، ولكني شعرت أنه لم يحن الوقت للبوح بها.حرصت على عدم إهمال الأمور التي يقتضي إليها رتابة قد لا يجد القارئ فائدة من الحرص عليها، مثل عقد المجالس واللجان،.... وعدم ذكر هذه الأمور رغم تكررها برتابة نقص في الصورة العامة التي لا تكمل إلا بها، ومثل ذلك زيارة بعض رؤساء الدول المتكررة بشكل يلفت النظر والدعوات على الغداء والعشاء وما على من لا يرى أن في قراءة هذه الأمور فائدة أن يتجاهلها ويقفزها، كما سبق أن اقترحت ولكن الباحث الأكاديمي في يوم من الأيام وقد لا يكون هذا اليوم قريباً سوف يجد فيها بغيته».
أما أنا فأقول إن الخويطر كان ذكياً جداً حتى في اختياره لعنوان مؤلفه «الوسم» قبل أن يشتهر هذا المصطلح في عصر تويتر بـ «الهاشتاق» كما كان يوثق المعلومة ويترك للقارئ الحصيف الاستنباط، فمن خلال مجريات الأحداث للفترة التي يتحدث عنها يمكن معرفة أو تحليل بعض ما خفي.
ويحسب للخويطر عن بقية مجايليه أنه أرّخ ووثّق بطريقته حتى وإن رأى فيها البعض نقصاً، وأنصح كل مهتم بتاريخ الوطن أن يرجع إلى هاشتاق الخويطر «وسم على أديم الزمن»، فحتى اختياره للاسم ينم عن ذكاء ودقة وفهم عميق للغة العربية التي عشقها وأخلص لها.
وإني أتطلع إلى استكمال صدور ما تبقى من أجزاء الوسم راجياً من أخي محمد بن عبد العزيز الخويطر وأستاذنا أبي طلال الدكتور عبد الرحمن الشبيلي وأستاذنا (الحبيب) أبي بدر حمد القاضي سرعة نشرها وفاء وعرفاناً للمؤرخ الكبير عبد العزيز الخويطر، وأقترح بهذه المناسبة أن تجمع في مجلدات بعد استكمالها باسم (تاريخ ابن خويطر)، فهو بحق تأريخ مرحلة ينطبق عليه:
لقد أخرجت للأنام سفراً
نفيساً لم يدع سفرا نفيسا
بززت ابن المقفع فيه بزاً
وكدت تزحزح الشيخ الرئيسا
أما صفاته - رحمه الله - مثل دقته وانضباطه في جميع أموره وقدرته على تنظيم وقته، إضافة إلى شخصيته المتوازنة ووفائه لأصدقائه ومحبيه وأقربائه فأمثلة ذلك مبثوثة في ثنايا مؤلفه، أما نزاهته وما يرتبط بها من زهد وتعفف وتواضع فتلك صفة لازمته واشتهر بها حياً وميتاً، حتى إن أكثر من كتب عنه خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاته - رحمه الله - وصفه بالوزير النزيه.
وقد ذكر الدكتور مرزوق بن تنباك في مقالته المنشورة بصحيفة مكة (يوم الأربعاء 6 شعبان العدد 143) شيئاً من ذلك حين قال: «.... وجه المفارقة في الموضوع أنه قد سبق الدكتور عبد العزيز الخويطر إلى الدار الآخرة عدد كبير من أصحاب المعالي الوزراء وكبار التنفيذيين في الدولة منذ تشكيل أول وزارة قبل خمسة وستين عاماً إلى يومنا هذا.... لم أجد من وصف واحداً منهم بصفة النزاهة ولا صفة العفاف عن المال العام ولا المحافظة عليه، وإغفال هذه الميزة لا يعني أن المرحومين من السابقين لم يكونوا كذلك....».
وقد أثار كل ذلك لدي تساؤلاً: هل الوعي الجمعي لمجتمعنا يشير إلى أن باقي الوزراء أو المسئولين لدينا غير نزيهين؟!!.. أم أن بعض من يكتب راثياً ينطبق عليه قول الشاعر:
وما أثنيتُ إلا بعد علمٍ
وكم من جاهلٍ أثنى فعابا
وهل هذه هي نظرة أغلبنا لمسئولينا ووزرائنا!.. لا شك في نزاهة الخويطر ولا شك أنه القوي الأمين فهي نزاهة في غير ضعف, ولكن هناك العديد من وزرائنا ومسئولينا اتصفوا بالقوة والنزاهة أيضاً.. وسأضرب الأمثال بمن تركوا المناصب أو رحلوا إلى الدار الآخرة مثل أصحاب المعالي: سليمان السليمان، وعبد الرحمن أبا الخيل, ومحمود سفر، وناصر السلوم، وتركي السديري، وحسن آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وإبراهيم العنقري، وصالح الحصين، وغازي القصيبي، وحسين منصوري، وغيرهم كثير ممن سبق أو ممن بقي.. وهذا لا ينفي وجود مسئولين غير نزيهين، ولكن هل هم الغالبية؟.. ولولا خشيتي عليهم من الفتنة لذكرت أسماء عدد من المسئولين الحاليين الذين يتصفون بالقوة والنزاهة أيضاً، وأنا أظن أنه سيوافقني الرأي جمع من التويتريين وغيرهم لو ذكرت الأسماء.. ولكن مع الأسف قلة الوعي وعدم التثبت من المعلومة أوصلتنا إلى أن كثيراً ممن ينشر المعلومات ويبث الأخبار أو يعلق عليها يتبع تعليق من سبق دون تثبت من أصل الخبر أو المعلومة.
ولأدلل على ذلك - فيما يتعلق بالخويطر نفسه - ما شاع بين الناس من أنه هو أول سعودي يحصل على الدكتوراه.. وهذه المعلومة ليست دقيقة، فقد سبقه عددٌ من السعوديين منهم: محمد بن رشيد الناصر الليلى بحصوله على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لوزان عام 1359هـ -1940م، والشيخ إبراهيم يوسف غلاب الذي حصل على الدكتوراه في الشريعة من الأزهر عام 1366هـ - 1946م، ولكن المؤكد أن الدكتور الخويطر (رحم الله الجميع) هو أول سعودي يحصل على الدكتوراه في التاريخ عام 1380هـ - 1960م. وبعد:
فذلكم هو عبد العزيز الخويطر كما رأيته وقرأت له.. شهادة أدلي بها للتأريخ لإيفاء الرجل حقه ولتقديم الأنموذج والقدوة للمسئول والمثقف، ولأُنصف جمعاً من وزرائنا ومسؤولينا الذين أفنوا أعمارهم في خدمة وبناء هذا الوطن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
رحمَ الله معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر وأجزل مثوبته ورفع درجته إزاء ما قدم لوطنه وأمته، والعزاء موصول لأسرته وتلاميذه وعارفي فضله وللوطن بأسره.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.