في رسالة أرسلها ابن زيدون الوزير والشاعر الأندلسي المشهور بعد هروبه من السجن وتوجهه إلى إشبيلية، ثم عودته إلى ضواحي قرطبة، إلى أستاذه أبوبكر مسلم بن أحمد، معاتباً إياه على عدم وقوفه بجانبه أثناء محنته في السجن وبعد هروبه منه، قال في مبتداها: «يا سيدي الذي كنت أراه أعد عددي لأبدي، وأحصن جُنني من زمني، ومن أبقاه الله في أصلح الأحوال وأفسح الآمال» أبدأ من كتابي إليك بشرح الضرورة الحافزة إلى ما صنعت مما بلغني أنك صدر اللائمين بي عليه، وأول المسفهين لرأي فيه، ومن أمثالهم: ويل للشجي من الخلي، وهان على الأملس ما لاقى الدبر».
بداية رائعة لرسالة رائعة، فهو في قوله: ومن أبقاه الله في أصلح الأحوال وأفسح الآمال، لم يدع لأستاذه وإن بدا ذلك في الظاهر، وإنما بقول إن الله أبقاك ترفل بصالح الأحوال في ظل الحاكم بن جهور.. وبعد ذلك، أخذ في لومه الظاهر على عزوفه عنه، وفيما يبدو أن أستاذه أبوبكر، قد أخذ في عزوفه عنه لأنه قد خالف حاكم قرطبة، مما أدى به إلى السجن، وهو ابن الكرام العزيز الذي ساعد في وصول الحاكم إلى حكم قرطبة، بل وساهم في سقوط الدولة الأموية في الأندلس.
واستمر في الكتابة بعد بدايته لخطابه، فقال: وأوسطه بمعاتبتك على ما كان من انفصالك عني، وبراءتك أمد المحنة مني، وأنك لم تكن في ورد ولا صدر من مشاركتي فيها، ولا كانت لك ناقة ولا جمل في مظاهرتك لي عليها، مع القدرة بك على تهوين خطبها، وتذليل صعبها، وتليين شديدها، وتقريب بعيدها.
وفيما يبدو أن ابن زيدون قد نما إلى سمعه أن أستاذه، قد تبرأ من الضلوع فيما ذهب إليه ابن زيدون، وأنه لم يظاهر عليه أحد، ولم يساعد عذاله في الإطاحة به، وإيداعه السجن، لكنه يربط ذلك بعدم المساعدة في إخراجه من المحنة، مع قدرته على المساهمة في ذلك، مما يدل على أن له باعاً في ذلك، أو يداً خفية من خلال تحريك المياه الراكدة، لا سيما أنه أستاذه والعالم بخفايا مكنونه، ولعل الوهم قد وصل به إلى هذا الاستنتاج الخاطئ في حق أستاذه، كما أن ابن زيدون قد نسي أو تناسى أن أستاذه أبوبكر ربما حاول النأي بنفسه عن مشكلة حساسة تتعلق بوجيه من وجهاء المجتمع والفاعلين فيه مع حكم فارض لسلطته على قرطبة، وللحق فإنه كان حكيماً كيساً عاقلاً.
واستمر ابن زيدون في لومه لأستاذه فقال:
فأرى صدقك الحديث وما ذاك
لبخلي عليك بالإغضاء
أنت عيني وليس من حق عيني
غض أجفانها على الأقذاء
وأردف قائلاً:
وإنما يعاتب الأديم ذو البشرة، والمثل السائر: ويبقى الود ما بقي العتاب.
وقال الآخر:
ابلغ أبا مسمع عني مغلغله
وفي العتاب حياة بين أقوام
ما أروع شطر البيت، فحقاً في العتاب بين الأقوام حياة، لمن كان منصفاً للناس من نفسه أولاً، ولو أن هذا النمط من العتاب المنصف سائدٌ لدى الساسة في عالمنا العربي اليوم، لما رأينا وما زلنا نرى تلك الدماء التي تسير على الأديم لتختلط به ولتشهد من كان في الثرى أن الأحفاد، قد ساروا على نهج السيئ من الأجداد، ولم يختاروا تلك النماذج الرائعة من أجدادهم التي أنصفت الناس من نفسها، قبل أن تنصف نفسها من الناس.
وكان خاتمة رسالته قوله:
وأختمه بتكليفك ما كان سبب الكتاب، والداعي إلى الخطاب، عساك أن تلاقي عَوداً ما ضيعت بدءاً، وتهتبل آخر ما أغفلت أولاً، فيعود غيثة على ما أفسد، وإن كنتُ في ذلك كدابغة وقد حلم الأديم، فمنفعة الغوث قبل العطب.
وخير الأمر ما استقبلت منه
وليس بأن تتبعه اتباعا
يا لها من رسالة بليغة، ومعانٍ ذكية، لم يقطع فيها شعرة معاوية، وقد استمر في رسالته، ولعل سانحة أخرى تجعلنا نكمل ما تبقى.