برحيل عبدالعزيز الخويطر، الأسبوع الماضي، توشك مجموعة (الحكماء) الكبار أن تنقرض!
يعرف الناس في بلادي من هم الحكماء الكبار، حتى وإن اختلفوا في ضم بعض الأسماء إليها أو استبعاد آخرين. إنهم أولئك الذين أسسوا وعملوا لعقود طويلة في بناء هذه الدولة وخدمة هذا المجتمع.
لم يكن مرورهم على الوظيفة عابراًَ.. لم يكونوا عابرين، بل لم يكونوا موظفين!
لقد تشرفت بالكتابة عن كثير من هؤلاء، وليس كلهم للأسف، في كتابي (حكايات رجال). واليوم، لا أجد ما أرثي به الوالد الراحل الكبير عبدالعزيز الخويطر أفضل من أن أسترجع المقال / الحوار الذي دار بيني وبينه في العام 1418هـ، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عما قدّم خير الجزاء.
(1)
إذا أراد الناس أن يُطروا هذا الإنسان قالوا : إنه الرجل الذي تسنم عدة وزارات، يتقلب بين ردهاتها منذ أكثر من ربع قرن. ولو أنهم جالسوه، لا جلسوا معه فحسب، لكانت الوزارات هي الجديرة بالإطراء.. إذ يغشاها زئير هذا الوزير!
(2)
في طريقي إلى منزله، كانت صورة المكتب المتواضع في وزارة المعارف آنذاك تسيطر على ذهني. من كان يتخيل أن يكون ذلك المكتب البسيط ذو الأثاث «المستعمل» مكتب مدير مدرسة.. فضلا عن أن يكون مكتب مدير المدارس.. الوزير بعينه!
قلت في نفسي: إذا كان حال منزله كحال مكتبه، فتلك مسألة «في الزهد»، وإذا كان حال منزله على غير حال مكتبه.. فتلك مسألة «في الورع «.
وقفت عند باب منزله، وقد عُلّقت عليه لوحة كتب عليها «منزل عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر»، هكذا كانت اللوحة «حافّ» خالية من أية بهارات تمنح الاسم نكهة لا تقاوم.
لم تكن اللوحة المتواضعة سوى مؤشر على طبيعة الإنسان الذي يقف خلف هذه اللوحة. فها هو معالي الوزراء / الخويطر يقوم بنفسه ليفتح الباب الداخلي ويستقبل ضيفه مهما صغر حتى يجلسه مكانه.
تلفّتُّ في مجلس الخويطر فإذا هو جميل في تواضع.. أنيق في بساطة. أدركت أنها مسألة «في الورع».
قلت له: الحال الذي عليه مكتبك لا ينبئ عن الحال الذي عليه منزلك.. لماذا هذا التغاير؟
أجابني ببساطة: منزلي أثاثه من جيبي.. مالي الخاص، أما مكتبي فأثاثه من المال العام.
قلت: لكن الله جميل يحب الجمال.
أجابني فوراً:
أنا أحب الجمال، لكنني لا أحب هدر المال العام في التجمل على حساب الحقوق الأساسية. فأنا في جميع المواقع التي عملت فيها لم أغيّر يوماً أثاث المكتب الذي وجدته عليه قبل مجيئي. فالأثاث الذي وسع من قبلي سيسعني أيضاً.
لم أشأ الإطالة في هذه الفكرة، خشية أن يقنعني بها ونحن على وشك تجهيز المقر الجديد لمجلة «المعرفة» التي أعمل بها (حينذاك)!
أردت أن أنقله إلى مضمار آخر ولكنه من النوع نفسه، قلت له:
الذين تعرفوا على عبدالعزيز الخويطر في منزله فوجئوا به إنساناً آخر من الوداعة والألفة غير ذلك الإنسان الصارم في مكتبه، فهل هو عبء المسؤولية أم غشاوة البيروقراطية التي تضع الصرامة ضمن «عدة الشغل» المحمولة إلى المكتب؟ّ!
أجابني وقد بدت الصرامة المكتبية على وجهه:
إذا أتاني الموظف في مكتبي وتناقشنا في المعاملة التي معه ثم انتهينا إلى توجيه معين، ماذا تريدني أن أفعل بعد ذلك؟ أتبادل معه النكات والحكايات المسلية! إذا كنت أؤمن كما يؤمن كثير غيري أن ساعات الدوام الرسمية في أحايين كثيرة قد لا تكفي لإنجاز العمل الذي ينبغي إنجازه.. فكيف تريدونني أن أهدر وقتا من العمل في التسلية والحكايا الجانبية؟!
أدركت أني أمام رجل لا يشغله فقط المحافظة على المال العام.. بل والمحافظة على «الوقت العام» لأن وقت الموظف ما هو إلا «عُملة» يمكن تحويلها بحسبة بسيطة من «عملة الدقيقة» إلى «عملة الريال»، أي أن هدر وقت العمل ما هو إلا هدر للمال العام.
جرّأتني وداعته ولطافته، فقلت في نفسي: سأسأله ذلك السؤال «المُعدي»! وسأحمي نفسي منه بترس «يقول الناس» هكذا:
يقول الناس إن عبدالعزيز الخويطر قد « نام» على وزارة المعارف 20 سنة، و»الطفرة» تشعل ذات اليمين وذات الشمال، حتى إذا قيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، وجدت «المعارف» نفسها حقلاً مجدباً وسط حقول مزهرة خضراء!
هذا كلام غير دقيق، وأسمعه من كثيرين فأطلب منهم إيراد حقائق وبيانات فلا أجد. أعطني كلاما محددا، ولا تقل «يقول الناس».. فلقد وجدت أن الناس يقودهم في مدح شخص أو ذمه سياسة القطيع، فإذا قام رجل في مجلس وأثنى على إنسان تحول المجلس كله إلى مداحين لذلك الإنسان، وإذا ذم إنساناً آخر تحول المجلس إلى ذمامين لذلك الآخر!.. أعطني كلاماً محدداً وسأفنده لك.
) قلت له وقد تهاوت من أمام وجهي «يقول الناس»:
- المباني المدرسية.. نموذجاً، الوزارة لم توظف الطفرة في توفير المباني الحكومية الكافية، وما زالت كثير من مدارسنا تقبع في منازل مستأجرة.
هذا كلام غير صحيح، فالوزارة شيدت العديد من المباني المدرسية خلال تلك السنوات. ويكفي أن أعطيك نموذجاً واحداً، فخلال الخمس سنوات عقب 1400 هـ أنشأت وزارة المعارف 2500 مبنى مدرسي، أي بمعدل مدرسة ونصف المدرسة يوميا، فهل يعد هذا تقتيراً؟! أما المباني المستأجرة.. فإنها واقع يفرضه الامتداد السكاني السريع جداً، والامتداد العمراني الأسرع في هذا البلد.
- لكن يقال إنك لم تكن تستخدم كامل الميزانية المخصصة للمعارف وكنت تعيد «الباقي» في نهاية الميزانية لوزارة المالية؟!
) وهذا أيضا من «كلام الناس» الذي لا يقوم على حقائق. فأنا لم أُعد ريالاً واحداً من ميزانية المعارف للمالية طيلة سنوات عملي. بل إنني كنت أحيانا أطلب من المالية تعزيز بعض البنود في أثناء السنة المالية لتسديد العجز. فإذا كنت أصرف كافة الميزانية الممنوحة لقطاع المعارف على مشاريعها فما هو المطلوب مني أكثر من ذلك؟!
أردت أن أخفف من غلواء الحديث المالي، فقلت لأبي محمد وانا أبتسم استدراراً لابتسامته:
- هل سمعت النكتة التي يتداولها الناس من أن عبدالعزيز الخويطر كتب خطاباً بصفته وزيراً للمعارف إلى وزير المالية يطلب فيه الموافقة على مشروع معين، ثم أصبح الخويطر وزيرا للمالية بالنيابة فشرح على خطابه الذي وقّعه من قبل بالرفض والاعتذار للمعارف عن عدم الموافقة!.
وفيما أنا أنتظر الابتسامة من معاليه.. فاجأني بقوله:
) هذه ليست نكتة هذه قصة واقعية، لكن الناس مسخوها بحيث جعلوها «نكتة» يستشهد بها ذوو الأحكام الجزافية. أما الحكاية فهي أنني كتبت خطابا بصفتي وزيراً للمعارف إلى وزير المالية أطلب فيه الموافقة على مشروع معين. وصل الخطاب إلى وزير المالية الأخ محمد ابا الخيل الذي شرح عليه بالاعتذار للمعارف عن طلبهم والتوجيه بإعداد الخطاب اللازم لذلك لتوقيعه. في تلك الأثناء صدر القرار بتكليفي وزيراً للمالية بالنيابة. فلما باشرت العمل في المالية قُدّم إلي الخطاب المعد بالاعتذار للمعارف ضمن العديد من المعاملات المعدة للتوقيع من قبل وزير المالية، فما كان أمامي سوى خيارين: إما أن أرجئ توقيع الخطاب حتى عودة أبا الخيل، وإما أن أوقعه حتى لا تتأخر المعاملة. وبالفعل وقعت الخطاب المتضمن رفض طلب المعارف. ثم لما وصل الخطاب إلى المعارف شرحت عليه للقسم المختص بتوضيح الصورة وإجلاء مسوغات الطلب لوزير المالية بشكل أكبر. وأرسلت الخطاب التعقيبي من المعارف إلى المالية. ثم شرحت عليه في المالية للقسم المختص هناك بإعداد خطاب للمعارف بالموافقة!.. على أن يُترك توقيع الخطاب لوزير المالية الأخ محمد أبا الخيل بعد عودته. وكنت أدرك أن أخي محمد لن يتوانى عن توقيع الخطاب عند معرفته التفاصيل. وبالفعل عاد وزير المالية لمباشرة عمله ووقع الخطاب بالموافقة.
عندما انتهى معاليه من سرد هذه الحكاية الدسمة بالمعاني أدركت أمرين اثنين: الأول أن الناس قادرون على ابتسار الحكاية أو أي نص بشكل يقلبه رأساً على عقب دون أن يشعر ذلك «المبتسر» أنه قد كذب.. في حين أنه زيّف الحقيقة كاملة. الأمر الثاني: أن عبدالعزيز الخويطر يملك من الدهاء «الهادئ» ما جعله إدارياً وقيادياً من طراز نادر.
(3)
الانضباط والالتزام الذي عُرف عن الدكتور عبدالعزيز الخويطر يثير الدهشة في هذا العالم الصاخب والمليء بالمتناقضات، سألته:
- كيف تتعايش برؤاك «النموذجية» في عالم «النواجذ» الذي نعيشه الآن، أو النزاهة في ظل الانكباب المحموم للناس على الترفيه؟
) أنا أعتقد أن داء الترف هو الذي يهيمن على الناس الآن. ومشكلتنا ليست في الترف الجسدي، بل الترف الذهني الذي يسيّر طريقة التفكير لدى الناس. تسمع أحدهم يزعم أنه بحاجة إلى إجازة يلهو ويرفه فيها عن نفسه، وحين تستقصي الأداء الذي قدمه ذلك الموظف لا تجد فيه من الجهد ما يستحق الترفيه من بعده!
أصبح الإنسان منا لا يريد أن يقدم عملا جادا في غير وظيفته، أما الوقت خارج الدوام أو في الإجازة فإنه ينبغي أن يستهلكه في لهو وترفيه.
من منا يفكر أن يوظف وقت فراغه أو إجازته في إنجاز عمل فكري أو خيري يخدم الأمة. أصبح الناس أنانيين، لا يقدّمون من الأفكار أو الجهود إلا ما يساهم في ترقيتهم، أو إدرار ربح مادي لهم أو وجاهة اجتماعية تزيد من وهجهم الإعلامي! أعطني من يعمل لغير هذه الأهداف الثلاثة، من يعمل لوجه الله سبحانه ولنصرة هذه الأمة ورفعتها.. إنهم قليل (مصطلح «الأمة» في المقطع السابق من استخدام د. الخويطر وليس من عندي، فقط للاحاطة!).
(4)
وبعد.. هذا هو عبدالعزيز الخويطر، رجل يدلف نحو الثمانين من عمره.. لكنه يؤدي عمله وكأنه قد صدر للتو قرار تعيينه. حماس.. انتظام.. وطموح للتغيير نحو الأفضل.
دخلت عليه وأنا أحمل عنه في ذهني صورة بالأبيض والأسود! يؤطرها في جوانبها: النزاهة حد العجز، والتقتير حد البخل، والنظام حد التعقيد، والبيروقراطية حد «القرط»!
دخلت عنده بهذه الصورة السائدة عند كثير من الناس. مكثت معه من الثامنة حتى الثانية عشرة ليلا في حديث ثنائي «تكبسل» في وصفات تربوية وإدارية وإنسانية أذابت بمفعولها القوي ذلك «الخاطر» المشوّه عن الخويطر.
آه.. لو كنتم معنا وسمعتم من فكره ما لم أكتب لأدركتم أي نوع من القياديين هو.
وليس هذا وليد حقبة رجّاعة من عمره, بل هو نهج متأصل فيه منذ كان يافعا..
استمعوا إلى هذا النص النادر الذي نبّشت حتى وجدته عن الطالب / عبدالعزيز الخويطر في أول تقرير عن طلاب البعثات: «أما عبدالعزيز الخويطر فلا يحتاج إلى مراقب ولا مشرف، مثالي في خلقه، مثالي في جده واجتهاده، ومثالي في نتائجه. أحيا الرقيب الداخلي في نفسه فكفاه غيره.. عاش فريدا في انضباطه وحرصه على المال العام والمصلحة العامة, وكان وسطا عدلا في أداء ما وُكّل إليه». هذا هو الخويطر عندما كان طالباً.. فكيف به عندما أصبح مطلوباً؟!.