أثارت المخصصات المالية الكبيرة التي قدمتها بسخاء لا محدود حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله وأعلن عنها في 20 مايو من العام الحالي 2014 الكثير من الجدل سواء في أوساط المتخصصين أو العامة والذين يلمس كل منهم وبلا شك مشكلات هذا التعليم من خلال ابنه الذي يرتاد مدرسة الحي أو أخيه الذي يذهب إلى مدرسة خاصة أو أخته المعلمة في إحدى الهجر.
كل أفراد المجتمع وقعوا ضحايا مواجهة غير مبررة مع معضلات التعليم العام في السعودية والذي لم تنفع معه الهبات المتتالية ولا سخاء المخصصات التي وصلت حتى العام الماضي إلى 25% من الموازنة العامة للدولة خلال العشرين سنة الماضية، ولم يؤثر في مخرجاته كبر حجم المبنى الباذخ الذي تمت إقامته منذ بدء مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم عام 1428 والذي يقع على أحد جانبي جسر الخليج في العاصمة الرياض تحت اسم جريء يقتحم سكان العاصمة كل يوم ويذكرهم به لكنه أيضا ينبئ عن أهمية المشروع بالنسبة لمن أقامه (مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام)! والذي فيما يبدو لم ينجح أبدا في مواجهة توقعات القيادة أو العموم للسبع سنوات الماضية.
(أمضى المشروع سبع سنوات لبناء خططه الإستراتيجية ووضع عشر سنوات لتنفيذها ؟؟؟؟؟!!) (الشاب المبتدئ الذي لا يتجاوز راتبه 3000 ريال لا بد أن يتساءل كيف تم صرف التسعة بلايين ريال وسوف يسأل نفس الأسئلة للثمانين بليونا هذه المرة)! (الأرقام مذهلة بكل ما تعنيه هذه الكلمة) ؟؟
لنترك الماضي الآن ولنتجه للمستقبل: نحو هذه المخصصات الجديدة ولنفكر معا كيف نوقد عبر توظيفها هذه الملايين من الأجيال الشابة وذلك من خلال تعليمها كيف تتبنى أنماط التفكير العلمي الذي يعتمد دراسة الظواهر واستقراء النتائج بالطرق العلمية المتعارف عليها بعيدا عن الخرافة والغيبية وهو ما سيؤدي تدريجيا إلى خلق مجتمع المعرفة الذي نأمله والمشبع بانتماء وطني يستطيع فهم الاختلافات العرقية والدينية والعائلية لمواطني المملكة العربية السعودية جميعهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ووسطا كما يتبنى على الصعيد العالمي مشاعر إنسانية تتسع للعالم أجمع بتفهم اختلافاتها وسبل التعايش السلمي معها.
لا يمكن لمشروع تعليمي أن ينجح إن لم يكن جزءا من خطة وطنية عامة يتبناها القادة ويشتغلون على تنفيذها في كل القطاعات وليس فقط في مجال التعليم وحده ولنتذكر تجارب الأمم ممن سبقتنا.
عام 1983 دق ناقوس الخطر في الولايات المتحدة بعد أن أظهرت نتائج الاختبارات للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مواد مثل العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية أن الطلاب أقل من نظرائهم في الدول الأخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول الاسكندنافية ومن ثم تبنى الرئيس رونالد ريجان آنذاك تكوين لجنة مستقلة قدمت تقريرها لكيفية إصلاح التعليم للعشرين سنة القادمة وأسمته (أمة في خطر).
ظلت تقارير هذه اللجنة تصدر تباعا لمتابعة التغييرات المفصلية والنوعية التي تم اقتراحها من لجان مستقلة داخلية وخارجية والتي مهدت لخطوة الرئيس بوش عام 1990 وعنوانها (أمريكا سنة 2000 : استراتيجية للتعليم) تبعها عام 2000 استراتيجية بوش الابن (نو تشايلد بهايند) أي لا طفل يتخلف عن حقه في التعليم والتي حمل لواءها أيضا الرئيس الحالي باراك أوباما الذي استمر بنفسه في تبني هذه الاستراتيجيات ومتابعتها.
التجربة الأمريكية تؤكد لنا دور القيادة الأساسي في بناء الإستراتيجيات التعليمية الواضحة التي تتلمس بصدق مواطن الضعف في العملية التعليمية وتحمل المبضع لعلاجها حتى لو احترقت بعض أصابعها .. قيادة تحمل رؤية إستراتيجية ترتفع فوق الصراعات السياسية والأيدلوجية وتضع مصلحة الوطن والمواطن أولا وأخيرا.
لتحقيق ذلك علينا بدءا أن نفكر في السؤال التالي البسيط جدا: أي مواطن نريد ؟ لا أظن أن هناك اتفاقا على ماذا نريد فعلا من طالب المستقبل؟ هل نريده مفكرا يسأل المؤسسات في حقوقه الشخصية والعامة وبذا نخلق لديه مهارات التفكر والاستطلاع، أم نريده حافظا ومرددا لمقولات لا يجب نقضها أم نريده تقليديا أم نريده عالميا؟ سيجيب الجميع: نريد كل ذلك؟ نريد التناقضات ذاتها لكننا لا نعرف كيف؟ هذا التخبط يؤكد غياب الرؤية الواضحة لفلسفة التعليم التي لم يطالها التغيير خلال الأربعين سنة الماضية مما يؤكد ضرورة مراجعة هذه السياسات والافتراضات التي أقمنا عليها تعليمنا ولنسأل بصدق..
لماذا كان ولا زال ينظر لها وكأنها من المقدسات التي لا تمس ولا تنتقد ولا تراجع؟ هل بحجة صيانة التراث والدين؟ وهل وجود التعليم الحديث يهدد الدين؟ يهدد كيان الدولة؟ هل نشعر بهذا الخطر فعلا ؟ حسنا لنبقي الأمور كما هي عليه لكن ماذا حدث؟ جاء الخطر من داخل نظام التعليم التقليدي الذي هدد كيان الدولة بأسرها كما أنتج أمة ضعيفة غير منافسة ولا يجد أبناؤها مجالا للمنافسة المهنية في سوقهم أو الأسواق العالمية لضعف أسسهم المنطقية والعلمية والرياضية واللغوية واصطف الطلاب من خريجي الجامعات النظرية والدينية طوابير في سوق البطالة فتحركت قوى الغضب والفقر والتطرف.
ليست مشكلة التعليم لدينا أنه فقط مختطف كما يردد بكثرة هذه الأيام وليست المشكلة فقط هي سوء إعداد المعلم أو عقم نظام التقويم المستمر أو رداءة البنية التحتية للمدارس أو المركزية الشديدة في الإدارة أو تراجع دور الأهل في تعليم أبنائهم لكنها كل هذه العوامل مجتمعة بل وأكثر...
هي أزمات متراكمة تتعلق بسوء وتخبط التخطيط وتفضيل السياسات التصالحية على حساب ما يتعلمه الطلاب في المدارس فتم التحكم في المناهج وسياسات التعليم وفي إدارته ودخلت في كل ذلك المصالح والوساطات والفساد وضيق الأفق مدعوما بغياب التصور الإستراتيجي وبغياب القيادة السياسية إلا حين تضطر للتدخل لخلق توازنات عليا يقصد منها حل الأزمات في كل مرة دون التفكير بشكل إستراتيجي بعيد المدى.. والآن ونحن نحصد نتاج تخبط طال أمده..
آن لقيادتنا أن توقف الركب المجلجل وأن تبني له طرقا واضحة بإشارات مرور يفهمها وبعلامات طريق يتبعها باقتناع وتشاورية من خلال خطة استراتيجية وطنية تراجع المسلمات الأساسية التي قام عليها هذا التعليم وتستنير بتجارب الأمم المتقدمة وتعلو فوق الصراعات المؤقتة وتبتعد عن الحلول المؤقتة وتضع نصب عينيها أن التعليم هو شرط نجاح المجتمعات وهو أيضا محرقتها فأيهما تختار؟.