إن الإنسان بل جميع المخلوقات الحية كي تنمو نمواً طبيعياً سليماً من الموعوقات والتأثيرات التي تعيق اكتمال نموه إنه بحاجة إلى بيئة صالحة متكاملة منذ النشأة الأولى فتحتضنه حتى تكتمل أطوار نشأته فيخرج سليماً خالياً من العلل.. ولعل الإنسان من أحوج الكائنات الحية إلى البيئة الصالحة منذ نشأته في الرحم وحتى نهاية مراحل حياته لأنه هو من يعمر الأرض حيث حباه الله ومنحه العقل وميزه به على سائر المخلوقات، فهو ينمو في جميع مراحل حياته في بيئات مترابطة يكتمل بعضها مع بعض من بيئة الرحم ثم الحضانة ثم الطفولة إلى أن يصل إلى بيئة الشيخوخة والهرم فإذا حصل خلل أو قصور أو أثر سلبي على أي من هذه البيئات فإن ذلك ينعكس سلباً على حياة الفرد وعلى قدرته في مواصلة حياته بشكل طبيعي، بل قد تؤدي إلى انحراف مسار حياته إلى ضرر يطال نفسه وأسرته ويمتد إلى المجتمع.
إن البيئة وهي المكان الذي ينمو ويعيش فيها أي كائن حي لابد أن تكون سليمة متكاملة العناصر كي تساعده على النمو الطبيعي.
وبما أني معلم متقاعد قد عملت أكثر من 32 سنة في هذا الميدان والذي يحلو لي أن أسميه ميدان الأمانة حيث إن منسوبي هذا الميدان مؤتمنون على هذا النشء وتهيئة البيئة الملائمة والصالحة.
إن بيئة التعليم في المملكة لا تزال طاردة في جميع مراحل التعليم العام بل حتى على المستوى الجامعي ولا أدل على عدم جاذبية بيئة التعليم لدينا ما يعانيه أبناؤنا الطلاب والطالبات من ضيق وعدم انشراح وتململ وتضجر عند الذهاب إلى المدرسة. ناهيك عن ثقل ساعات يومهم الدراسي. فما إن تنتهي الحصة الأولى من الصفوف الأولية حتى يتقاطرون على مدير المدرسة ووكيلها ومرشدها ومعلميها يسألونهم كم باقي من حصة ونخرج ولم يكتفوا بمرة بل يكررون ذلك حتى ينتهي اليوم الدراسي ثم يشاهد الصور المحزنة وهم يفرون عبر بوابة المدرسة ويدفع بعضهم بعضاً هروباً من تلك البيئة الكئيبة والمملة والتي يعاني منها جميع منسوبي المدرسة من إداريين ومعلمين وطلاب إلا ما شاء الله وهم قلة في هذا الميدان ولدي تجربة طويلة مع هذه البيئة الطاردة من المرحلة الابتدائية أيام كان التمهيدي فيها يسمى أولى صغار والمعلم والمربي فيها مستخدم ثم يرفع الطلاب إلى أولى كبار وهي بداية التعليم العام وقد مررت على جميع مراحل التعليم وحتى التعليم الجامعي. وشاء الله أن أكمل الحلقة لأعود إلى التعليم العام معلماً وأكثر من خمس عشرة سنة ومثلها في إدارة مدرسة.
وقد حاولت أثناء عملي الإداري أن أضع من ضمن خطة المدرسة تهيئة بيئة مدرسية جاذبة للمعلمين والإداريين والطلاب والحد من الملل والتشكي والروتين والحد من أسئلة الطلاب متى ننتهي من الحصة وكم بقي من حصة ونخرج وفرحة المعلم وطلابه عند سماعهم جرس كل حصة ناهيك عن الأخيرة. ولم أوفق إلى حد ما وهذا ينطبق على جميع بيئات التعليم وهذا ما لمسناه نحن ومن بعدنا أبناؤنا وبناتنا بأن بيئة التعليم ليست جاذبة بل طاردة ومنفرة من وجهة نظري وبحكم تجربتي المتواضعة ولعل من أسباب أن بيئة التعليم في كل مراحله غير جاذبة ما يلي:
1 - المعلم والتي ساقته الظروف إلى هذا الميدان وليس باختياره حتى أن كثيراً منهم في تخصص غير تربوي واضطر إلى قبول هذه الوظيفة وهو لا يعلم شيئاً عن هذا الميدان التربوي وزيادة على ذلك أثقل المعلم بالمهام وامتلأ جيبه بالجداول من جدول الحصص جدول المراقبة اليومية جدول حصص النشاط جدول متابعة الطلاب عند الخروج وعند الحضور واشغاله بالتوقيع على التعاميم اليومية ومتابعتها مما جعل المعلم يصاب بالملل والسأم والتشكي والتحدث بالتقاعد في سنينه الأولى مما انعكس أثرهذا المعلم المثقل وغير المهيأ على البيئة التعليمية وخاصة على تعامله مع طلابه ومع زملائه المعلمين وبقية منسوبي المدرسة وهذا حال المعلم مهما علت مراحله، فالمعلم هو العنصر القوي والفعال والركيزة الأساسية في تحسين البيئة التعليمية.
2 - الإداريون من مدير ووكيل وكاتب حيث لم يتم تعيينهم على أسس تربوية ولم يصلوا إلى هذه المناصب بالتدرج التربوي القائم على التقويم الصحيح ليكونوا مؤهلين لقيادة مثل هذا العمل التربوي فانعكس هذا الاختيار العشوائي غير المستند على تدرج الوصول إلى قيادة تربوية مما كان له الأثر السيئ على البيئة التعليمية وغير قادرين على ايجاد بيئة جاذبة ولم نسمع أن أحداً من المدراء جعل من خطته السنوية محاولة ايجاد بيئة جاذبة بل تكون خططهم السنوية متكررة خالية من الإبداع والتجديد بل أن كثيراً من مدراء المدارس فقط يغير التاريخ في خطته الجديدة.
3 - المشرفون حيث إن وضعهم أشبه ما يكون بالمدير والوكيل ولم يصلوا إلى الإشراف نتيجة تقييم وترفع وتدرج بالخبرة حتى وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى وصول مشرفين صغار السن قليلي الخبرة فيشرفون على مدراء ووكلاء ومعلمين لهم باع طويل في التعليم وأصبح همهم وهدفهم البحث عن أخطاء المعلمين والإداريين والمرشدين في المدراس وليس مساعدتهم ونقل خبرات وطرق تربوية تعينهم على ايجاد بيئة تربوية جاذبة.
4 - عدم الاخذ بالطرق الحديثة في التدريس حيث لا يزال الكثير من المعلمين يعتمدون طريقة الإلقاء والتلقين في توصيل المعلومة في جميع المراحل رغم توفير الوزارة الكثير من الوسائل التعليمية من التقنيات الحديثة السمعية والبصرية التي جهزت بها المختبرات والتي لو استخدمت بشكل صحيح لساعدت على ايجاد بيئة تعليمية جاذبة ولكن وللأسف وسائل مهجورة ويعلوها الغبار أو مكدسة في مستودع المدرسة وذلك نتيجة للكثير من منسوبي هذا الميدان لعدم ميولهم للتغيير وأنهم غير مهيئين للعمل به لذا انعكس ذلك على بيئة التعليم وعدم كونه جاذباً لابنائنا الطلاب والطالبات.
5 - المبنى المدرسي في جميع مراحله وحتى بعض الجامعات والكليات ولم يتم تصميمها بشكل ينسجم ويناسب العملية التربوية بل استمر على نماذج قديمة سواء في المدن أو القرى أو الهجر ناهيك أن بعضها مستأجر مما يزيد الطين بله، حيث ساعد هذا الشكل وهذه النماذج لأبنية المدارس على خلق بيئة كئيبة لا تبعث على الانشراح ولا يجد متنفساً وراحة في يومه الدراسي من حديقة ومسطحات خضراء يجلس بها ومن صالات طعام خاصة للمعلمين وأخرى للطلاب لتناول الوجبات الغذائية بأماكن تليق بالمعلم والطالب بدلاً من الوضع السيئ والحاصل الآن حيث المعلم لا يجد أحسن من المطبخ للجلوس وتناول شيء من الشاي أو على مكتبه في غرفة المعلمين إن وجدت. كما تفتقر المنشآت المدرسية إلى الملاعب المناسبة والصالات الرياضية والفنية والمسارح المجهزة مما جعل المبنى المدرسي عاملا أساسيا في تكوين بيئة تعليمية طاردة لذا نجد الجميع يطير فرحاً بأي يوم تعلق به الدراسة حتى ولو كان السبب الغبار.
6 - الروتين الممل في اليوم المدرسي في جميع المراحل حيث لا معلم ولا مدير ولا وكيل ولا مرشد الكل لا يحاول التغيير والتجديد والإبداع الكل لا يحاول كسر هذا الروتين، فاليوم الدراسي نموذج متكرر طيلة العام الدراسي.
7 - المناهج والكتب المدرسية ثابتة لا تغير فيها وفيها بعض المعلومات التي لا تتناسب مع عمر الطالب فيدرس الطالب في المرحلة الابتدائية أحكام زكاة بهيمة الأنعام وعروض التجارة والخارج من الأرض لطفل لا يزال يأخذ مصروفه اليومي من والديه وبعد عام أو عامين يتم طبع المناهج والكتب بهدر مالي كبير لجميع المراحل بنفس المعلومة وبدون تغيير أو حذف فقط يتم تغيير العناوين بالألوان الحمراء والزرقاء.
وأخيراً قد يطول ويتشعب موضوع بيئة التعليم الا أنني أختم موضوعي ووجهة نظري في أن بيئة التعليم في كل المراحل طاردة وليست جاذبة للأسباب والعوامل التي سبق ذكرها، وقد يكون أسباب وعوامل أخرى يطول الحديث فيها لذلك كان من افرازات ونتائج ومخرجات ذلك بيئات ثابتة لا تسعى إلى التغيير والتجديد والبحث والعصف الذهني والفكري للإبداع والاختراع بما يعود على الفرد والأسرة والمجتمع ويرفع من شأن هذه الأمة، بل الحاصل الآن محاربة كل جديد والوقوف أمام كل تغيير يهدف إلى محاولة النهوض. وقد نهض الغرب ونمنا نوماً سباتاً حتى أصبحنا أمة مستهلكة في جميع أمورها تنظر ما يقدم لها وجلسنا في زوايا التاريخ ومنعطفاته نتغنى بتاريخنا المجيد وصناعاتنا واختراعاتنا التي أبهرت الروم والفرس.
وسوف تظل الأمة العربية مكانك سر في ظل هذه البيئة التعليمية الطاردة وغير الجاذبة التي لا تقتصر على المملكة فقط في ظل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحسين هذه البيئة ومحاربة كل محاولة للتجديد والتغيير وستظل على حال هذا الوضع إلى ما شاء الله إلى أن تتغير هذه البيئة فيتغير حال هذه الأمة وأسأل الله أن يتقبل عثرة هذه الأمة ويرفع من شأنها ويزيل مسببات ضعفها وهوانها وتشرذمها لتقف بهمة أبنائها شامخة في مقدمة الأمم لا في مصافها فنحن في أبنائنا وموقعنا وثرواتنا وديننا الإسلامي الذي يحث على العمل قادرون على تحقيق الهدف إن تم اصلاح البيئة التعليمية لأنها مربط الفرس. والله الموفق.