يقال: «من رأى ليس كمن سمع أو قرأ»، فقد سمعنا وقرأنا كثيراً عن ذلك الجهاز الشهير الذي ارتبط اسمه بنشرات الأخبار وحوادث الطائرات، ورغم ما لدينا من معلومات عنه إلا أننا لا زلنا نجهل عنه الكثير من المعلومات والخفايا، إنه الصندوق الأسود، وهذا ما دعانا إلى زيارة الإدارة الإلكترونية المتخصصة في قراءة محتوياته بالشركة السعودية لهندسة وصناعة الطيران بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، وذلك لمشاهدة ذلك الجهاز الشهير وسبر أغواره عن كثب وميدانياً، فما هي قصته، ومتى بدأ استخدامه، وما مهامه، بالإضافة إلى كشف العديد من أسراره التي تجدونها في ثنايا هذا التقرير؟
البدايات
تشير بعض التقارير المنشورة إلى أن بدايات التفكير في الجهاز كانت من أستراليا في بداية الستينات الميلادية، وتكمن في ضرورة وجود جهاز يقوم بمهمة نقل اللحظات الأخيرة لأي حادث طيران مع الحرب العالمية الثانية، حيث ظهر تطور سريع في الملاحة الجوية، وأدى هذا الأمر إلى تطوير الطائرات النفاثة، لكن في المقابل أصبح هناك الكثير من الحوادث التي لا يمكن تفسير أسبابها، ومن ثم أصبحت سلامة الطيران مهددة بأسباب غير معروفة في ذلك الوقت، بعد ذلك قامت شركة أمريكية بتطوير الأجهزة في الطائرات الأسترالية، وغيرت وسط التسجيل إلى شريط مغناطيسي، وبالرغم من هذا الإبطاء فإن أستراليا أصبحت عام 1967 أول دولة تفرض تركيب جهاز تسجيل البيانات والصوت في طائراتها، والآن أصبحت كل الطائرات مجهزة بتلك الأجهزة التي سمحت لمحققي الحوادث بأن يجدوا أسباباً للعديد من حوادث الطيران.
اهتمام ومتابعة
والتقينا في بداية الجولة الرئيس التنفيذي للشركة السعودية لهندسة وصيانة الطيران المهندس نادر بن أحمد خلاوي الذي أوضح أن ما يدعو إلى الفخر في الشركة السعودية لهندسة وصناعة الطيران أن نسب السعودة تتطور وتنمو بشكل كبير حتى وصلت ولله الحمد إلى أكثر من 92%، لافتاً إلى أن إدارة الالكترونيات في الشركة تتفرد بطاقم سعودي فني 100%، وتحظى باهتمام ومتابعة مستمرة نظراً للدور الهام والكبير الذي تضطلع به خصوصاً القسم الخاص بصيانة ومراجعة بيانات الصندوق الأسود الذي يمثل أداة أساسية في التحقيقات المتعلقة بحوادث الطائرات، فهي تسجل كافة بيانات الرحلات الجوية.
وبين خلاوي أن الشركة تعتز باحتضانها كوكبة متميزة من الكوادر السعودية المتخصصة في مجال صيانة إلكترونيات الطائرات والذين يمتلكون خبرة واسعة وتلقوا تدريبات مكثفة في أعرق جامعات الولايات المتحدة الأمريكية في مجال صيانة الإلكترونيات وقراءة جهاز الصندوق الأسود، بالإضافة إلى حضورهم العديد من الدورات وورش العمل في هذا المجال المتخصص والنادر.
صندوقان
وخلال الجولة، أكد مدير صيانة إلكترونيات الطائرات بالخطوط السعودية المهندس غرم الله بن مساعد الغامدي أن التحقيقات عادة تتركز بعد حوادث الطائرات – لاسمح الله- على البحث عن جهازي تسجيل معروفين بالصندوق الأسود موجودين في ذيل الطائرة من أجل معرفة أسباب الحوادث، فالقوانين الدولية المتفق عليها تلزم جميع الرحلات التجارية بحمل جهازي تسجيل معلومات خاصين بأداء الطائرة وظروف الرحلة أثناء الطيران.
وعند السؤال عن سبب اختيار موقع ذيل الطائرة قال الغامدي: «تم انتقاء هذا الموقع لأنه أكثر أمانا في الطائرة، ليكون بعيدا عن المناطق التي تكون عرضة للاصطدام، حيث يتم تركيبه في منطقة الذيل»، مضيفاً أن طائرات الركاب التجارية تحمل صندوقين يسجل أحدهما البيانات الرقمية للرحلة وتتضمن معلومات عن سرعة واتجاه وارتفاع الطائرة، بينما يسجل الصندوق الثاني الأصوات والمحادثات داخل مقصورة قيادة الطائرة والتعليمات التي يصدرها الطاقم.
ثلاث مراحل
وعن بدايات الجهاز ومراحل تطوره أوضح المهندس عبدالله هيزع البشري رئيس شعبة الأوكسجين والعدادات أن تطور أجهزة التسجيل مر بثلاث مراحل: ففي المرحلة الأولى كان التسجيل يتم على شريط ألمنيوم خاص مقاوم للنيران والعوامل الأخرى ولكن كمية المعلومات التي يمكن تسجيلها على هذا الشريط كانت قليلةً، وفي المرحلة الثانية تم تطوير الجهاز باستعمال الشريط المغناطيسي المضاد للنيران والعوامل الأخرى، ومع التطور الحاصل في عالم الإلكترونيات تم تطوير الجهاز باستخدام الشرائح الإلكترونية التي تستوعب كميات كبيرة من المعلومات، وهي ما عليه الأجهزة الحديثه اليوم.
وتابع البشري حديثه قائلا: ومن حيث الأسبقية التاريخية، فقد دخل جهاز تسجيل البيانات أولا، وبعده بعدة سنوات دخل جهاز تسجيل الصوت، وعلى نقيض التسمية فإن اللون الحقيقي للصندوقين هو البرتقالي مع خطوط بيضاء عاكسة تسهل رؤيتهما خلال عمليات البحث ليلاً، كما يصل وزن كل صندوق ما بين سبعة إلى عشرة كيلوجرامات وصناعته أمريكية، وسعره يصل لحوالي 20 ألف دولار.
قوالب فولاذية
وعن محتويات الجهاز قال فني إلكترونيات الطائرات المهندس ماجد العتيبي: تحفظ هذه الأجهزة في قوالب متينة للغاية مصنوعة من مواد قوية مثل عنصر التيتانيوم، تحيطها مادة عازلة لتتحمل صدمات تبلغ قوتها أضعاف قوة الجاذبية الأرضية، ولتتحمل حرارة تفوق 1000 درجة مئوية وضغطا قويا يعادل ضغط المياه على عمق 200000 قدم تحت البحر، وتُلفّ قطع التسجيل عادة بمادة عازلة تحميها من التعرض لمسح المعلومات المسجلة عليها، وكذلك من العطب والتآكل من جراء مياه البحر لمدة 30 يوما.
وأكد العتيبي أن الصندوقين مجهّزان ببث غوص يندلع إذا ما غاصت الصناديق في الماء، وتطلق إشعارا فوق الصوتي، للمساعدة على العثور عليها، وتستطيع الصناديق البقاء صالحة ومحتفظة ببياناتها على عمق 6 كيلومترات تحت سطح البحر، مضيفاً أن الصندوق الأسود يحتوي على أجهزة استشعار تعمل تلقائياً عند الاصطدام وترسل إشارات للمساعدة في العثور عليها.
كفاءة التشغيل
وعن موقع قراءات بيانات الجهاز، أوضح المهندس صلاح المجنوني فني إلكترونيات الطائرات أن إرسال الصندوق الأسود إلى قسم الصيانة يكون لسببين أولهما، بواسطة كابتن الطائرة الذي يقوم باختبار الجهاز قبل إقلاع الطائرة، فإذا اكتشف عدم كفاءة تشغيله يقوم بإشعار الصيانة لاستبداله، السبب الثاني بهدف التحقيق في حادثة معينة».
وبالعودة إلى الغامدي بين أنه عند وصول الصندوق إلى قسم الصيانة يأخذه موظفون متخصصون لتفريغ المعلومات الموجودة عليه، وسماع المحادثات الموجودة عليه من خلال أجهزة وبرامج متخصصة، وهي تكون سرية، مضيفاً أنه بالإمكان قراءة وتحميل البيانات من الجهاز من خلال تركيب كيبل معين، بدون الحاجة إلى إخراجه من الطائرة، ولكن بعض الحالات تستدعي إحضاره إلى الصيانة وذلك حفاظاً عليه من العبث ومسح البيانات المسجلة.
وعن كيفية فك الشفرات لمعرفة أسباب حوادث الطيران أوضح المهندس البشري أنه لا يمكن للمحققين أن يحددوا أسباب الحادث من مسجل البيانات فقط، ولكن من الممكن عند تسجيل محادثات طاقم الطائرة والاستماع إليها أن يعرفوا سبب الحادث، من هنا كانت فكرة تسجيل الصوت داخل قمرة القيادة».
تاريخ الصلاحية
وعما إذا كان للجهاز تاريخ صلاحية، أفاد البشري أنه لا يوجد تاريخ صلاحية للجهاز بشكل كامل، ولكن هناك اختبارات زمنية لقياس مدى كفاءته كل عامين، بالإضافة إلى أن الجزء الوحيد الذي له تاريخ صلاحية هو البطارية أو ما يسمى جهاز الإرسال، فلابد من استبداله كل خمسة أعوام.
كما بين المجنوني أن جهاز تسجيل البيانات يستطيع أن يسجل آخر 25 ساعة للرحلة، كما أن مسجل صوت قمرة القيادة يسجل محادثات الطيار ومساعده، بالإضافة إلى اتصالات المراقبة الجوية وإعلانات الركاب وتشويشات الطائرة، الأمر الذي يسمح لفريق التحقيق بأن يستمع لآخر ساعتين من زمن الرحلة والتغيرات التي حدثت في الطائرة، والتي تعطيهم دلائل حية.. لماذا وقع الحادث؟.
وأوضح العتيبي أن التطور الذي تشهده صناعة النقل الجوي لا حدود لها، كما أن هناك جهودًا حثيثة من الشركات العالمية المصنعة لإلكترونيات الطائرات لتطوير جهاز الصندوق الأسود، حيث ظهر مؤخراً إمكانية إضافة تسجيل فيديو إلى تسجيل البيانات وتسجيل الأصوات على متن الطائرات الحديثة وخصوصاً على الطائرات الجديدة من شركة بوينج دريملاينر المتطورة.
وفي ختام الجولة أكد مساعد مدير عام الخطوط السعودية التنفيذي للعلاقات العامة الأستاذ عبدالله بن مشبب الأجهر الذي سهل للجزيرة هذه الجولة، على أهمية مثل هذه المبادرات الصحفية الميدانية في الحقل الإعلامي والتي تتيح التعرف عن كثب على مواضيع وتخصصات هامة في صناعة النقل الجوي، مشيراً إلى أن «السعودية» تسعد دائماً بفتح قنوات التواصل مع مختلف وسائل الإعلام والتي تقوم بدور إيجابي ومشكور في إلقاء الضوء على مختلف الموضوعات والقضايا التي تهم المسافرين والمتابعين لمجال الطيران.