من صناعة السفن لصناعة الفن، هذا أقل ما يُوصف في حلقتنا الثانية لسيرة فنان العرب محمد عبده، فبعد أن تعرفنا في الحلقة الأولى عن مولده ويتمه ودار الأيتام والتحاقه بالمدرسة، وأول أغنية له في تاريخه، نستكمل الجزء الثاني وفيها وفقاً لمحمد صادق دياب، دخول محمد عبده المعهد الصناعي آخذاً بمقولة (صنعة أبوك لا يغلبوك) حيث اختار صناعة السفن وكيف تحولت حياته إلى صناعة الفن، وكيف تعرف عمر كدرس على فنان العرب ولماذا قالت له إذاعة السعودية راجعنا بعد سنة.
بعض الناس يولدون كباراً
وفي اليوم الذي تسلّم فيه الطالب محمد الشهادة الابتدائية من دار الأيتام راح يطوي المسافات ركضاً من موقع الدار بطريق مكة إلى حيث تسكن أمه بالرباط في حي اليمن، وهو يرفع الشهادة. وفجأة أمام القرار الصعب، (ممنوع دخول أبناء سلمى إلى الرباط ) فتعالى صوته بالسؤال : لماذا؟!
وجاءه الجواب بعد حين، فنظام الرباط لا يسمح بدخول الصبيان إذا ما بلغوا مرحلة المراهقة.
(بعض الناس يولدون كباراً)، وهو واحد من هؤلاء الذين عليهم أن ينضجوا سريعاً على موقد الآلام، وبينما هو في مكانه يسافر بنظراته إلى وجوه الناس العابرة استوقفه منظر صبي يرتدي زياً أشبه بزي العمال الفنيين، وعلى صدره نقشت عبارة : (المعهد الصناعي) فقفز من مكانه ليستوقف ذلك الصبي العابر الذي لم يلتق به من قبل، وحينما عاد الصبي محمد عبده إلى «الدكة» من جديد كانت بوادر أمل جديد تحاول أن تشق سحائب الحزن في دواخله.
صانعاً للسفن الصغيرة وصانعاً للفن :
في المعهد الصناعي في جدة اختار الصبي محمد عبده أن يتخصص في صناعة السفن مردداً في دواخله المثل الشعبي الشهير (صنعة أبوك لا يغلبوك)، أربع سنوات فقط يصبح بعدها فنياً (قد الدنيا)، وحتى قبل تخرجه سوف يتسلم نحو مائة ريال شهرياً من المعهد يمكن أن تسهم في تخفيف حجم البؤس الذي يعيشه، وقد آن الأوان لسلمى أن تغادر حياة الرباط لتتقاسم مع ابنها ذلك المسكن الصغير القريب من سوق (العلوي) الذي استأجره محمد من العم (حنفي الجزار) بثلث مكافأته من المعهد، فكانت الليلة الأولى التي عاشوها تحت سقف تلك الدار حدثاً هاماً في حياة تلك الأسرة الصغيرة التي عانت طويلاً من الشتات.
لم يستطع المعهد الصناعي بنظامه الصارم ومنهجه المكثف أن ينسي الصبي محمد عبده إحساسه بجماليات صوته الذي اكتشفت عذوبته مسامع الصغار في دار الأيتام، فقد كانت أعظم أوقاته تلك التي يقضيها صيفاً في بيت خاله في الطائف، لينعم فيها بالاستماع إلى تسجيلات خاصة لكبار فناني اليمن والخليج أمثال : القعطبي والعنتري وإبراهيم الماس ومحمد بن فارس ومحمود حلواني وطارق عبد الحكيم وغيرهم، أما في جدة فكان يتحسس ليالي الفرح في هذه المدينة الطروب، يشارك فيها كبار المغنين في ذلك الزمان أمثال : حسن لبنى وعبد الرحمن مؤذن وعمر باعشن ومحمود حلواني . وطلائع الجيل الجديد من المطربين والملحنين أمثال :عمر كدرس وعبد الله محمد وطلال مداح وغيرهم .
لم تطل انتظارات ذلك الصبي الموهوب على بوابة الفن طويلاً، فقد أدرك بحسه الفطري أن عليه أن يبدأ خطوة الألف ميل بدلاً من انتظار قطار الحظ الذي قد يأتي ولا يأتي . وكانت البداية حينما اكتشف أن أحد جيرانه يحتفظ بقدر كبير من (الدانات) والموشحات القديمة، فراح محمد عبده يحفظها عن ظهر قلب، وللتعرف على ضروب أدائها قادته قدماه إلى عازف الكمان ( المقدم ) الذي كان يتجمع في منزله كل ليلة عدد كبير من المغنين المعروفين آنذاك أمثال محمد صالح عرفة وعثمان خميس وغيرهما.
وعلى مسامع هؤلاء راحت حنجرة الفنان الصغير محمد عبده تتعالى بالغناء مصحوبة بدهشة أولئك الكبار واستحسانهم . وفي تلك الأجواء الفنية المبكرة من حياته لامست كفه العود لأول مرة، فراحت أنامله الصغيرة تداعب أوتاره في فرح أفسدت حلاوته طرقات العم حنفي الجزار صاحب البيت معلناً أن لا مكان لعازف العود في تلك الدار، ولم يكن سهلاً على محمد أن يتخلى عن عوده تحت أية ضغوط أو تهديدات، فحمل أغراض منزله المحدودة تتبعه أمه وأخوه بحثاً عن منزل آخر يمكن أن يعزف فيه بعيداً عن تدخلات الجيران.
في الوقت الذي انشغل فيه محمد عبده بتلك البدايات الفنية المبكرة كانت صورة الفن والفنان في السعودية قد أخذت تتبلور بصورة جيدة ، وبدأ اسم الفنان طلال مداح في الانتشار بصورة سريعة، مصحوباً بقدر كبير من التقدير الذي يعكس قدراً كبيراً من التحول في الرؤية الاجتماعية للفنان.
العلاقة بين فنان العرب وعمر كدرس :
ويواصل محمد عبده بدايات مشواره الفني، ولعل من حسن حظه أن مدينة جدة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات كانت تعيش أجواء ومناخات فنية متميزة، وفي ليلة من ليالي عام 1960 م كان منزل السيد حسن رجب يضم نخبة من ألمع الفنانين في ذلك الزمان أمثال عبد الرحمن مؤذن، وعمر باعشن ومحمود حلواني ومحمد أمين يحيى وعمر كدرس، وكان الصبي محمد عبده (من بين المعازيم) الذين جاؤوا للاستمتاع بأصوات تلك النخبة من المطربين، وحينما أتى دور الفنان عمر كدرس في الغناء وهو الذي يُعد واحداً من أبرز فناني جيله عزفاً على العود واهتماماً بتحديث التراث راحت عيون الصغير محمد عبده تتعلق بأنامل الكدرس وهي تداعب أوتار العود في خفة ورشاقة لم يشهد مثلهما من قبل.
وما أن انتهى الكدرس من الغناء حتى تجرأ محمد عبده على الاقتراب إلى حيث يجلس الكدرس وغيره من الفنانين، ليسمعهم بعض ما يحفظه من الدانات، فكان أكثر الحضور احتفاء به هو الفنان عمر كدرس الذي أدرك بحسه الفني أنه أمام موهبة غير عادية.
قرر منذ تلك اللحظة أن يستثمر تلك الموهبة لصالح ألحانه في وقت كانت المسافة بينه وبين الفنان طلال مداح أخذت تتسع وتتسع، وبصورة خاصة حينما شعر كدرس أن طلال بدأ يمارس أسلوب الاكتفاء الذاتي، فيقوم بتلحين أعماله بنفسه، فكان لا بد لكدرس أن يبحث عن قوة رادعة لمواجهة ذلك التمرد (الطلالي)، وكان صوت محمد عبده هو الحلم الذي تعلق به الكدرس لإعادة طلال مداح إلى نطاق الطاعة الفنية.
الإذاعة لمحمد عبده : راجعنا بعد سنة
ولم تمضِ سوى بضعة أيام على ذلك اللقاء حتى شهدت أروقة الإذاعة السعودية في جدة وصول الفنان عمر كدرس وهو يصطحب صبيّاً أسمر نحيلاً إلى لجنة اختبار الأصوات بالإذاعة .
وأمام أعضاء اللجنة التي تشكلت من الفنانين مطلق مخلد الذيابي (سمير الوادي) ومهران بلخيان وعبد السلام سفر، تعالى صوت الصبي ببعض الدانات التراثية، وحينما فرغ من الغناء راحت عيونه تتعلق بقراءة النتيجة في وجوه أعضاء اللجنة . ولم تخذله فراسته، فقد أدرك بحسه أن صوته الطفولي لازال يحتاج إلى المزيد من التمرين والتدريب قبل أن تقنع لجنة بهذا الثقل الفني أن تسمح لصوته بأن ينطلق من الإذاعة، ولم يفت تلك اللجنة حساسية الفنان في شخصيته، لذا اكتفت بالقول بأن يراجعها بعد عام.
الأسطوانة الأولى
خلال تلك الفترة كانت الساحة الفنية تشهد قناة نشطة من قنوات التوصيل الفني وهي الأسطوانات . وتعد شركة توزيعات الشرق أول مؤسسة سعودية تمارس الإنتاج في هذا المجال وتسعى إلى تحقيق هدف يتجاوز الغاية التجارية إلى الهدف الوطني، وهو نشر الأغنية السعودية التي كان أبرز ممثليها آنذاك طلال مداح وعبد الله محمد، وسعى الفنان عمر كدرس إلى تقديم محمد عبده إلى أبرز ملاك تلك الشركة، وهما عبد الله حبيب وحماد الجهني، فلم يتحمس له حبيب، ولكن الجهني كان له رأي آخر يختلف عن قناعات شريكه ، فقام بإنتاج ست اسطوانات دفعة واحدة لمحمد عبده احتوت على دانات تراثية مثل ( يا الله يا عالم الضماير) و (يحيى عمر قال العشقة فنون) و (يا مورّد الخد)، وقد أجرى تسجيلها في منزله بجدة .
ولم يكن يرافق أداء الفنان محمد عبده في تلك الأغنيات سوى عمر كدرس على الكمان وبدر بطيش على الإيقاع، ورغم ذلك فلقد استطاعت تلك الأعمال أن تحقق انتشاراً مناسباً شجّع الجهني على أن ينتج المزيد من الأعمال لذلك الصوت الجديد، مثل (ماشي بتتهادا) من ألحان كدرس وكلمات أحمد صادق، وأغنية سامرية فولكلورية :(البارحة يا حبيبي ضاق صدري).
محمد عبده يغني للإذاعة
ويطرق محمد عبده على استحياء من جديد بوابة الإذاعة، ولا زال يتذكر كيف عبر ذلك الممر الطويل إلى حيث مكتب الفنان مطلق مخلد الذيابي وقد تجاهلته النظرات وتعثرت به الخطى .
محمد عبده : أستاذ مطلق هل تتذكرني ؟
مطلق الذيابي : ويصوب مطلق نظراته صوب الصبي قبل أن يقول :
- لا أتذكرك فقط ، ولكنني أيضاً في انتظارك.
ويمد مطلق يداً إلى درج المكتب، يلتقط نصاً غنائياً يقدمه إلى الصبي محمد عبده، وتتسلل عيون الصبي إلى مطلع النص فيقرأ : (سكبت دموع عيني من عذابي)، ويستأنف مطلق الحديث قائلاً : وهذا اللحن هو هديتي إليك ليكون اللحن الأول الذي يحتضن صوتك عبر الإذاعة.
وحينما انطلق صوت محمد عبده لأول مرة يتغنى بلحن مطلق الذيابي (سكبت دموع عيني) لم يكن هذا الحدث أمراً عادياً في حياة الفتى وأسرته، فقد تجمعت تلك الأسرة الصغيرة حول ذلك الراديو العتيق بينما توسط محمد عبده شلة الأصدقاء الذين شاركوه الفرح بمولد صوته.
ويصف محمد عبده مشاعره في ذلك اليوم البعيد من عام 1961 م الذي انطلق صوته فيه عبر الإذاعة، فيقول : ربما كان ذلك اليوم واحداً من أجمل أيام حياتي، فهو اليوم الأول الذي شعرت فيه ببشائر الانتصار على بؤس الطفولة وتعب الأيام، كنت آنذاك صبياً عادياً لا أجد ما أفاخر به أقراني في ذلك الحين، فإذا فاخر البعض بآبائهم ذكروني بيتمي، وإذا تحدثوا عن ثرائهم شعرت بفقري، وإذا ما استعرضوا قواهم أحسست بضعفي، لكنني في ذلك اليوم تملكني إحساس جميل بالتميز، فقد أصبح لي أخيراً ما يمكن أن أعتز به.