من الصعب أن يأتي أحدهم بمعلومات تاريخية موثقة عن بدايات فنان العرب محمد عبده ، والأصعب ان يأتي بها منذ يوم ولادته وما قبلها.
لكن للمحبين والمقربين دور في توثيق سيرة فنان العرب، وتمكنوا بكل «صدق» من كتابة هذا التاريخ الفني لواحد من أهم الفنانين العرب والذي صال وجال بصوته وفنه العالم، وثق في مراحل عمره جزءا من تاريخ الثقافة والفن في السعودية، وقدمها بصوته وإحساسه للعالم، حتى «أرغم» العديد من الأصوات الغنائية العربية بالتغني بالكلمة السعودية وبالموروث الوطني.
ولأن تاريخ فنان العرب مليء بالأحداث والأحاديث الماتعة والممتعة والتي بدأت من البؤس والفقر ودار الأيتام، ووصل لقمة الحضور والحبور، وبين تلك المراحل العديد من القصص، ولعل احتواء خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسؤاله الدائم عن فنان العرب وقت مرض الأخير قبل سنوات في فرنسا دليل على قمة المجد التي وصل لها ابن تهامة عسير.
ولعل الراحل محمد صادق دياب والذي قام بكتابة أسماها «أوراق خاصة من حياة فنان العرب « ما بين شهري مارس وأبريل من عام 1996م، هي الأصدق فيما كُتب عن فنان العرب من مولده وحتى اعتزاله الفن في بداية التسعينات من القرن الميلادي السابق.
وبحسب ما علمنا .. فإن الراحل أو كما كان يُلقب «بالعمدة « كان من جُلاس فنان العرب، ولكن الفترة والذي قرر فيها أبو نورة اعتزال الفن في مطلع التسعينات توثقت العلاقة بين الاثنين أكثر، فكان العمدة الأكثر مجالسة لفنان العرب في بداية قرار الاعتزال، وتصاعدت وتيرة العلاقة بينهما، حتى قرر دياب وبعد موافقة فنان العرب بكتابة تاريخه الفني والاجتماعي، وبعدها بدأ دياب في مجالسة فنان العرب في مساءات طويلة تمتد بعضها من بعد صلاة العشاء وحتى ساعات الصباح الأولى، كان يحمل أوراقا ومسجله وقلمه، فيبدأ أبو نورة بنثر قصصه ويبدأ دياب بتدوينها حتى اكتملت، فيما بدأ بعد ذلك بنشر تلك الأوراق في عام 1996م، وبالمناسبة وقتها لا يزال فنان العرب معتزل الفن، قبل أن يعود إليها مجدداً في عام 1997 بحفلات لندن التي لا تزال أعمالها وأصداؤها حتى اللحظة.
ولأنه ليس هناك أي مجال للتشكيك في «صدق» ما كتبه محمد صادق دياب، لأنه كان ناقلا لتلك التفاصيل من صاحبها الأصلي ، فقد رأى الزميل محمد القرناس وهو بالمناسبة المشرف على موقع عبده ميوزك وواحد من أهم العالمين بتاريخ فنان العرب ولأكثر حفظاً لسيرته وأعماله، رأى أن لا تذهب هذه الأوراق مع النسيان، فقرر حفظها وجمعها من جديد حتى قام بإخراجها في كتاب من تصميم عبدالمحسن الحبوبي، وقام برفعها بطريقة صفحات pdf وجعلها متروكة للجميع في مواقع التواصل الاجتماعي وليس لها أي تواجد في المكتبات.
عن هذا يقول محمد القرناس: قبل نحو ثمانية عشر عاماً كتب الأديب الأستاذ محمد صادق دياب «رحمه الله» حلقات أوراق خاصة من حياة فنان وهي «أجمل» ما كُتب عن حياة فنان العرب الأستاذ محمد عبده، لاسيما وأنه الرصد «الوحيد» الذي سلّط الضوء على حياة فنان العرب (قبل دخوله المجال الفني) بل تجاوز ذلك للحديث عن حياة أسرته قبل مولده. كما تحدّث بإسهاب عن « معاناة « فنان العرب من يتمٍ وفقرْ وإخفاق في أوائل خطواته الفنية، وفي الوقت نفسه لم يغفل جانب العزيمة والإصرار على تحقيق الطموح, وكيف لابن ذلك البحّار الفقير والذي عانى اليُتمْ طفلاً أن يضرب بتلك المعوقات عرض الحائط لـ «يصنع» مجده بنفسه ويصبح الفنان الذي يشار إليه بالبنان والمطرب الذي سكن صوته منازل كل العرب من المحيط إلى الخليج.
وأردف بقوله: من المخجل حقيقة أن مادة بهذه القيمة تذهب أدراج الرياح بسهولة، وأنه مع ما وصلت إليه التقنية من تطورّ إلا أنه وخلال البحث عنها (لا توجد نتائج).
ويختم القرناس حديثه: توثيقاً لها، ويقيناً بقيمتها جمعتها وقدمتها بأبهى حُلة مع كامل الثقة أنها ستنال إعجاب من يقرؤها للمرة الأولى، وبشكلها الحديث ستروق لمن قرأها من قبل، قدمتها حفظاً لتاريخ فنان العرب ووفاءً لمحمد صادق دياب.
وأبرز ما جاء في أوراق دياب عن فنان العرب محمد عبده بعد أن جمعها القرناس في كتاب وأضاف لها بعض الصور الخاصة من أرشيفه وتنشرها الجزيرة تقديراً منها لهذا الجهد ولحفظ هذا التاريخ الفني.
كبرياء التاريخ
لا أحد يستطيع أن يُحدد بالضبط متى ولد محمد عبده، حتى محمد عبده نفسه، فحينما كان يَسأل محمد والدته (سلمى نصر الله) عن تاريخ مولده، كانت تضحك وهي تقول : (إنك يا ولدي أكبر من ولد الجيران بعام وأصغر من بنت الجيران بعام). وبطبيعة الحال لم يكن ولد الجيران يعرف تاريخ مولده ولا بنت الجيران.
وظلت إشكالية العمر تحيّر محمد عبده في كل مرة يُسأل فيها عن عمره، فكان يختار لكل مناسبة عمراً، حتى حسمها طبيب المستشفى العام في جدة حينما ذهب إليه محمد مستنجداً بخبرته في البحث عن تاريخ مولده الذي اختفى أو ضاع في ذاكرة الأهل والجيران وتقلبات الزمان والمكان، وفي ذلك اليوم، ولأول مرة، خرج محمد عبده يحمل في جيبه ورقة صغيرة خط عليها الطبيب عبارة : محمد عبده عثمان عسيري من مواليد 1948م .
موسم الأحزان
ينتمي محمد عبده إلى أسرة معروفة في قرية الدرب بتهامة عسير، ولها تاريخ عريق مع البحر، فجده عثمان مرزوق عسيري كان واحداً من أكثر رجالاته شهرة وثراء، لكن موته المفاجئ مزق شمل الأسرة وتفرق أبناؤه الثلاثة صغاراً، وكان عبده الأصغر أكثرهم حظاً، فقد كفله السيد نصر الله رزق الله، من السادة (المراوعة)، وحينما كبر عقد له على ابنته (سلمى)، ويقفل عبده بعد ذلك راجعاً من جديد إلى قريته الصغيرة (الدرب) في تهامة عسير ومعه زوجته ليستقرا هناك، وتستمر الحياة هناك حتى أيقنت الأسرة بصعوبة المكوث في قريتهم بسبب ضعف اليد من جهة وبسبب موت عدد من أشقاء محمد عبده بسبب المرض، فتقرر الأسرة السفر إلى جدة.
مولد محمد عبده
وحينما أبحر المركب الشراعي من ميناء (الشقيق) في ذلك الصباح لم يكن عبده هذه المرة وحده، بل كانت إلى جانبه زوجته سلمى وأبنائه فاطمة وعثمان ،وفي ميناء جدة القديم الذي يسمونه (البنط) خطتْ أقدامُ الأسرة أولى خطواتها في هذه المدينة، وفي طرف جدة الجنوبي راح عبده يدفع كل الريالات التي بحوزته ثمناً لذلك البيت الخشبي البسيط الذي استأجره ليأوي إليه سلمى وأطفالها وفي ليلةٍ كانت الرياح فيها تعزف أنغامها العذبة على أغصان شجرة النيم الوحيدة التي انتصبت شامخة في فناء الدار، راح عبده يذرع الفناء ذهاباً وإياباً، وأنّات زوجته المتقطعة تلاحق مسامعه، وفجأة تتعالى صرخات المولود وهي تعلن قدومه إلى الدنيا، وكانت فرحة سلمى لا توصف وهي تطلق على هذا المولود القادم اسم «محمد» من جديد.
الغناء لأول مرة
في جو تلك المدينة وعَبق حاراتها العتيقة، وفي ليلة من ليالي أعراس المدينة جلس محمد مشدوهاً على كتف والده يتأمل مغنياً تحلق حوله رجال الحارة تداعب أصابعه أوتار من (النايلون) شُدَّت على قطعة خشبية تنتهي أطرافها بقطعة معدنية مجوفة عُرف فيما بعد إنها آلة (السمسمية) .
وحينما عاد إلى الدار راح يقلد على مسامع والديه وإخوته ذلك المغني في ثقةٍ طفولية متقطعة، وربما كانت تلك الكلمات هي أول أغنية يتمتم بها ذلك الصغير في حياته .
الفرح الحزين واليتيم والعيد
قرر (عبده) السفر للعلاج وأوكل لابن عم أمه (زيد) -هو الوحيد الذي تعرفه الأسرة ويعرفها في هذه المدينة- رعاية أسرته ويقرر أن يزوجه بابنته فاطمة.
وكان قد مضى على رحيل (عبده) أكثر من ثمانية شهور لم تسمع الأسرة من أخباره شيئاً، وهذه مدافع عيد الفطر قد انطلقت وتعالت أهازيج الصغار في البرحات، سلمى تكاد تتلمس صوت ابنها محمد الذي لم يتجاوز السادسة من العمر من بين أصوات الصغار، وهو يردد :(يا حلاوة العيد . . يا حلاوة.. من مال جديد . . يا حلاوة) .
الخطوات الأولى إلى المدرسة
يرى لأول مرة في حياته فنان العرب ذلك المكان الذي يسمونه المدرسة، وأمام (المدير) وقف زيد وهو يضع كفه على رأس الصغير محمد ليقول لذلك الرجل : هذا صهري محمد عبده، وهو يتيم وأنا ولي أمره، فهل تسمحون له بالالتحاق بالمدرسة ؟ ولم تمض سوى دقائق حتى كان محمد بعدها في فناء المدرسة يردد مع التلاميذ في حزن ذلك النشيد الطفولي الذي أراق دمعه :
(تيري ريري رته .. بابا يجي متى .. يجي الساعة ستة .. راكب ولا ماشي .. راكب بسكليته حمراء وألا بيضاء .. بيضاء زي القشطة .. وسعوا له الحارة .. وسعوا له السكة) .
الانتقال إلى الرباط الخيري
تأكدت الأسرة من وفاة والدهم «عبده»، ولهذا تقرر سلمى أن تتحمل منذ اللحظة مسؤوليتها في تربية أبنائها، وتنتقل سلمى بأبنائها إلى أحد الأربطة الخيرية المعروفة بحارة اليمن وهو (رباط أبو زنادة)، وكان على الأرملة الشابة أن تسعى لتأمين لقمة عيش أبنائها، ولكن كيف لها أن تغادر الرباط وهي المرهونة برعاية أطفالها؟!
يتيم وسط مئات الأيتام
صباحٌ جميل ذلك اليوم الذي أسرّت فيه سلمى لأبنيها الصغيرين محمد وأحمد بأنهما سيذهبان في صحبتها إلى مكة المكرمة لزيارة المسجد الحرام والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة، ويشتد فرح الصغير محمد، فمكة التي قرأ عنها في كتاب المطالعة مرسومة في دواخله بخطوط من نور، وأمام باب إبراهيم عليه السلام (أحد أبواب الحرم المكي) سرقت انتباه الصغير محمد تلك المجموعات من الأطفال التي ارتدت ما يُشبه الزي العسكري آنذاك، تسير في طابور جميل منتظم، تعبر بوابة الحرم إلى داخل المسجد لتأخذ مكانها بين المصلين، ويقترب الصغير محمد عبده من أحد هؤلاء الأطفال مستفسراً عن سبب ارتدائهم ذلك الزي ولماذا تجمعوا في ذلك الطابور الكبير، وعَلِم من خلاله أن هؤلاء الأطفال هم طلبة دار الأيتام بمكة، وأن ذلك الزي الذي يشبه اللبس العسكري هو زي المناسبات الرسمية للدار.
وتعلق قلب محمد عبده بذلك الزي حتى أصبح الالتحاق بتلك الدار واحدة من أعز أمانيه، وفي طريق العودة أسرَّ محمد لأمه بأمنيته تلك، فاقترح عليها البعض أن تبعث بطلبها إلى الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز ولي العهد آنذاك، فآثرت أن تذهب إليه بنفسها هناك، فطوت المسافات إلى مدينة الطائف وفي يدها اليمنى تعلقت كف الصغير محمد، وفي الأخرى تشبث أحمد وهناك على بوابة قصر (شبرا) راحت كف الأمير فيصل «رحمه الله» تربت على كتفي اليتيمين وهو يعد سلمى بقبول طلبها.
الحياة في دار الأيتام
ولم تمضِ على لقاء الأمير (الملك) فيصل عدة أيام حتى كان عمدة حي اليمن في جدة محمود عبد الصمد يطرق باب غرفة (سلمى) في الرباط ليبلغها بقبول ابنيها بدار الأيتام التي افتتحت في جدة في ذلك العام.
ويصف محمد عبده حياته في دار الأيتام فيقول (إن دار الأيتام في جدة تشكل واحدة من أبرز موانئ حياتي، ففيها تعلمت كيف يمكن للطفل اليتيم أن يعتمد على ذاته ويستقل بها بعيداً عن الاتكاء على عواطف الآخرين).